مساحة ذكريات قصة : حنان درويش
المساء يقظة المهمومين . والرصيف لم يألف وقع خطواتي بعد ..فأنا مازلت أرسم بعداً إضافياً لنقلة قدمي فوق البلاطات الرمادية المرصوفة بانتظام .
وجه واضح القسمات يتأملني بهدوء , يخرج من مسامات الماضي , ثم يأتي إليّ ,حقلاً مزهراً , وحديقة وأغاني .. وجهك يا عاصم كان تميمتي , أحضن التميمة بين أهدابي , ثمّ أخفّ المسير ,فتتحول البلاطات الرماديّة الصغيرة إلى كرات نارية متوهّجة . يخرج الناس من بيوتهم ,يهلّلون لقدومنا معاً , يرقصون ويبتهجون ,وتنسكب من السماء شلالات ضياء , تلفّ الشارع بالنور , وتغرقه بومض له عذوبة المشاعر الغامضة . أغلق عينيّ وأفتحهما , فأرى نفسي وحيدة إلا من صحبة الذكريات .
* * *
حينا ودّعت صديقتي وفاء عند باب بيتها قبل قليل , كان اللونان الأبيض والأسود قد بدءا بالتداخل . رجتني أن أتريّث عندها أكثر , لكنني اعتذرت .. فالنهار شرع بالرحيل , حاملاً أمتعته إلى جهات مختلفة من العالم , جهات واعدة بالضجيج . كلّ المعالم حولي غابت حينها , إلا وجه صديقتي لم يغب أبداً , فهي الوحيدة التي خرجت بها من الدنيا , بعد أن غربلت بغربال الجميع , ولم يبق عالقاً على السطح سواها , فكانت الملاذ والمأوى عندما أحسّ بالضّيق يخنقني , أو عندما أشعر أنني مضطرة أن ألوك صراخي داخل فمي , أو بحاجة لابتلاع شفتيّ .
اليوم كانت جلستنا طويلة ,سكبت على صدرها همومي ومشاكلي وأحزاني التي لا تنتهي , ومتاعب البيت والعمل والأولاد والزوج , الذي يعتبر محور المشاكل كلها , والذي أصبح في الآونة الأخيرة عنيداً , مشاكساً , فوضوياً , لا مبالياً .. واللامبالاة هي شعاره اليومي , وهي راحته الكاملة . يستيقظ في الصباح . يشرب قهوته , ثمّ يذهب إلى عمله , وحينا يعود ظهراً , يتناول غداءه , ويقرأ جريدته وينام .. أما الليل فله حكاية أخرى لديه , فهو يمضيه بسهر يوميّ , ولا يعود إلى المنزل حتى يشارف الفجر بالمجيء .. حالته باتت غريبة , كلّ ما فيه تبدّل وتغيّر , وكأنّه إنسان أخر , غير ذالك الذي عرفته من قبل .. " حياتنا مملّة يا صديقتي , والملل القاتل صار أعزّ ضيوفنا ."
* * *
كنت أوّل مرة التقيت عاصم , عندما وقفت أتدارى من هجمة المطر المفاجئة تحت شجرة الدلب العجوز , والتي تظلّل حيّزاً من الطريق المؤدي إلى مكان عملي .. كان الزمن بعيداً , والوقت شتاءً , والسماء تمطر بشراهة . وابل يعاند النوافذ والأرصفة , ووابل يعاند زجاج قلبي . التقت عيوننا , والتقت أفئدتنا ... كانت صدفة , تحدثنا فيها على عجل , وقد عبقت كلماتنا بأنفاس الواقفين برفقتنا ... التفّوا جميعاً بلباسهم الشتوي القاتم , المصنوع من الجلد أو الجوخ أو الصوف . أحدهم يدخّن , والآخر ينظر بفضول إلى ما نقول , والباقيان منشغلين بترقب انقطاع المطر الغزير . افترقنا وقتها , ولكن على أمل اللقاء فيما بعد .
* * *
صديقتي وفاء كانت واحة أمان بالنسبة لي ,تخفّف عني بكلماتها الرقيقة , ووجهها البشوش .. كلّ ما فيها يوحي بالطمأنينة والسكينة والوداعة والهدوء , فقد وهبها الله نفساً بشرية جميلة , تعيش فيها مرتاحة البال , قريرة العين , قانعة بكل شيء حولها دون تمرد , أو اعتراض .
" حساسيتك المفرطة هي التي تضخّم الأمور , وتجعل من المشاكل الصغيرة مشاكل أكبر , ويصبح الشكل الصغير لديك , كتمثال أبي الهول تماماً .. ظروفك كظروفي وظروف الأخريات , كلّنا نعيش واقعاً واحداً تقريباً , وما تشكين منه , أعايشه أنا قبل غيري . لكنّني أختلف عنك بأنني أتقبّل الأشياء بمسلماتها .. لاأفلسفها , لاأعقّدها .. وهكذا تستقيم الحال . "
كلام وفاء الذي توجهه لي بين فترة وأخرى , أعرف ماذا تبغي منه .. تريدني أن أتنبّه إلى ثغرة موجودة في شخصيتي .. تريد أن تقول لي : إنّ العيب موجود فيك , وليس في الظروف .
* * *
كان الدرب إلى بيتي ليس قصيراً و وقد تعمّدت أن أقطعه ماشية على قدميه , فهذا الدرب خبر خطواتنا ,ومشاويرنا , وأحاديثنا .. لذا فقد عشقت أشجاره وحجارته وناسه ,وشمسه , وقمره , وبيوته المترامية على طرفيه الواسعين . كانت بصماتي مع بصمات عاصم فوقه تشكّل زمنًا بحاله .. زمناً لم نستطع الحفاظ عليه,تسرّب من بين أصابعنا كما الرمل , ومن أمام عيوننا كم الشعاع . رحل , وبرحيله ماتت كلّ الأحلام .. اللون , والصوت , والأمنيات . لم يقل وداعاً , ذهب دون وداع .
قرب إحدى الحدائق وقفت , غرقت في نشوة التوحد مع الموقف .
"على هذا المقعد كنت أجلس معك , نتكلم في كلّ شيء , نختلف ونتفق نتفق ونختلف ..كنّا نقرأ ,نقرأ كثيراً , ونتحاور فيما نقرأ . كنت تدافع عن زوربا , تتقمّص شخصيته , ترقص أمامي رقصته الخالدة , تحمل كتابك في يدك , وتبدأ في العزف عليه , مقلّداً آلة " الساناتوري " التي عزف عليها زوربا ذات يوم .. تدور , وتدور , ثمّ تفز بالهواء . من أجلك أعدت قرائة الرواية منذ أيّام فوجدت فيها فلسفتك القديمة عن الحياة .كنت تقول :
" الحياة يجب أن تعاش ,لا نضيعها , لا نقتلها , وإنما نحتضنها بخوا فقنا الدافئة دوماً ..هكذا يقول زوربا يا حبيبتي " .
أضحك , ثمّ نضحك معاً , ثمّ أتأبّط ذراعك ونمضي , نرسم للمستقبل بيتاً , وشمساً , وأطفالاً رائعين .. لا نشعر برتابة الأيّام , ولا يتسرّب إلى أوقاتنا شيء اسمه السأم .
* * *
من المؤكّد أنّ زوجي لن يكون الآن في المنزل , فدوامه المسائيّ عند أحد الأصدقاء لابدّ وقد بدأ. الساعة قاربت الثامنة , ولعبة الورق تنتظرهم على أحرّ من الجمر مجموعة من الذين عشقوا اللعبة , ووضعوا عندها أغلب طموحاتهم .. وقد قلت له أكثر من مرّه :
_ آلا ترى معي أن كلّ ما تقومون به هو مضيعة للوقت , وليس منه أيّة فائدة .
_ ليس وحدنا ما نفعل هذا , فهي لعبة العصر الدارجة , وإذا لم نتسلّ بها فماذا نفعل ؟
بهذه الكلمات كان يجيبني , ثم يناور , ويبدّل الحديث , كي لا أستطيع الردّ عليه .
صديقتي وفاء أخبرتني , بأن زوجها يمارس الهواية نفسها منذ زمن بعيد , ولا يعود إلى فراشه قبل الثالثة صباحاً , لكنها اعتادت هذا , واعتبرته من صلب حياتها , فلا تعير غيابه أيّ اهتمام يذكر ولا أدري .. إن كنت أحسد صديقتي , أم أرثي لحالها ؟ .. هل أعتبرها عاقله , ناضجة تستوعب كلّ ما يدور حولها , أم أسلّم أنّها غير آبهة , أو غير موبالية , لأيّ تغير يطرأ على مسيرة عمرها ؟.
* * *
وصلت إلى أول الشارع الذي يتربّعه بيتي العزيز على قلبي , والذي أحبّه , وأحبّ من فيه أكثر من أيّ شيء في الدنيا .. غشاوة بسيطة تتراءى أمام مخيلتي , فأرى الأمور أكثر ضبابيّة .. تختلط صورة عاصم بصورة زوجي .. أتساءل :
" أيهما ستطغى على الأخرى ؟ وإلى متى ستستمر هذه الحال ؟ . الصورتان متمازجتان , تبدوان أحياناً بصورة واحدة , وبشكل واحد , وأحياناً أشعر أنّه يفصل بينهما قرن من الزمن , أو ربما قرنان , أو ربما دهر طويل طويل ليس له نهاية .. بينما أحاول أن أستعيد أنموذجاً رائعاً لأحد الرجال , كما أستعيد تفاصيل حياتنا الماضية بكلّ ما فيها من دقائق غالية على قلبي ونفسي , كما أستعيد كلماتك الموشومة أمام عينيّ :
" من واجبنا أن نقيض على اللحظة , ونقول لها :
_ أيّتها اللحظة الجميلة انتظري , فنجن مازلنا هنا .. "
* * *
حينا أصبحت قربة من منزلي حاولت أن أخنق العبرة في مقلتي , أنصب على شفتيّ تمثال الابتسامة المتجمدّ , وان أعود لذاتي من عمر مضى .. ندهت :
_ عاصم ..
في البداية لم أسمع صوتي لأن صوتي لم يقترب من أذنيّ . ندهت :
_ عاصم ..
ارتفع الصوت قليلاً ثم بدأ يتحوّل في أنحاء المكان . طرقت الباب سأل القادم :
_ من ؟ ..
لم أجب .. فقد تواردت إليّ كلّ المشاعر الحارّة عند سماع صوته .. جاءني الماضي حاضراً لا أريد له أن يغيب .. رجعت بلحظة , أميرة الوقت , وسيّدة الومضات . عادت أحاديثنا , مشاويرنا , مواعيدنا , كتبنا , .. كل شيء عاد . أستطيع في هذا الوقت الرؤية تماماً . لم تعد أحزاني متفرقة لقد تكرّثت رحلة العمر الطويلة في حيّز ضيّق , ضيّق . عرفت الآن سبب قلقي الذي أعيش . لقد فتح لي عاصم الباب , مغادراً المنزل إلى سهرته اليومية , فلا بدّ أنّ الأصحاب على طاولة اللعب بانتظاره .
* * *
المساء يقظة المهمومين . والرصيف لم يألف وقع خطواتي بعد ..فأنا مازلت أرسم بعداً إضافياً لنقلة قدمي فوق البلاطات الرمادية المرصوفة بانتظام .
وجه واضح القسمات يتأملني بهدوء , يخرج من مسامات الماضي , ثم يأتي إليّ ,حقلاً مزهراً , وحديقة وأغاني .. وجهك يا عاصم كان تميمتي , أحضن التميمة بين أهدابي , ثمّ أخفّ المسير ,فتتحول البلاطات الرماديّة الصغيرة إلى كرات نارية متوهّجة . يخرج الناس من بيوتهم ,يهلّلون لقدومنا معاً , يرقصون ويبتهجون ,وتنسكب من السماء شلالات ضياء , تلفّ الشارع بالنور , وتغرقه بومض له عذوبة المشاعر الغامضة . أغلق عينيّ وأفتحهما , فأرى نفسي وحيدة إلا من صحبة الذكريات .
* * *
حينا ودّعت صديقتي وفاء عند باب بيتها قبل قليل , كان اللونان الأبيض والأسود قد بدءا بالتداخل . رجتني أن أتريّث عندها أكثر , لكنني اعتذرت .. فالنهار شرع بالرحيل , حاملاً أمتعته إلى جهات مختلفة من العالم , جهات واعدة بالضجيج . كلّ المعالم حولي غابت حينها , إلا وجه صديقتي لم يغب أبداً , فهي الوحيدة التي خرجت بها من الدنيا , بعد أن غربلت بغربال الجميع , ولم يبق عالقاً على السطح سواها , فكانت الملاذ والمأوى عندما أحسّ بالضّيق يخنقني , أو عندما أشعر أنني مضطرة أن ألوك صراخي داخل فمي , أو بحاجة لابتلاع شفتيّ .
اليوم كانت جلستنا طويلة ,سكبت على صدرها همومي ومشاكلي وأحزاني التي لا تنتهي , ومتاعب البيت والعمل والأولاد والزوج , الذي يعتبر محور المشاكل كلها , والذي أصبح في الآونة الأخيرة عنيداً , مشاكساً , فوضوياً , لا مبالياً .. واللامبالاة هي شعاره اليومي , وهي راحته الكاملة . يستيقظ في الصباح . يشرب قهوته , ثمّ يذهب إلى عمله , وحينا يعود ظهراً , يتناول غداءه , ويقرأ جريدته وينام .. أما الليل فله حكاية أخرى لديه , فهو يمضيه بسهر يوميّ , ولا يعود إلى المنزل حتى يشارف الفجر بالمجيء .. حالته باتت غريبة , كلّ ما فيه تبدّل وتغيّر , وكأنّه إنسان أخر , غير ذالك الذي عرفته من قبل .. " حياتنا مملّة يا صديقتي , والملل القاتل صار أعزّ ضيوفنا ."
* * *
كنت أوّل مرة التقيت عاصم , عندما وقفت أتدارى من هجمة المطر المفاجئة تحت شجرة الدلب العجوز , والتي تظلّل حيّزاً من الطريق المؤدي إلى مكان عملي .. كان الزمن بعيداً , والوقت شتاءً , والسماء تمطر بشراهة . وابل يعاند النوافذ والأرصفة , ووابل يعاند زجاج قلبي . التقت عيوننا , والتقت أفئدتنا ... كانت صدفة , تحدثنا فيها على عجل , وقد عبقت كلماتنا بأنفاس الواقفين برفقتنا ... التفّوا جميعاً بلباسهم الشتوي القاتم , المصنوع من الجلد أو الجوخ أو الصوف . أحدهم يدخّن , والآخر ينظر بفضول إلى ما نقول , والباقيان منشغلين بترقب انقطاع المطر الغزير . افترقنا وقتها , ولكن على أمل اللقاء فيما بعد .
* * *
صديقتي وفاء كانت واحة أمان بالنسبة لي ,تخفّف عني بكلماتها الرقيقة , ووجهها البشوش .. كلّ ما فيها يوحي بالطمأنينة والسكينة والوداعة والهدوء , فقد وهبها الله نفساً بشرية جميلة , تعيش فيها مرتاحة البال , قريرة العين , قانعة بكل شيء حولها دون تمرد , أو اعتراض .
" حساسيتك المفرطة هي التي تضخّم الأمور , وتجعل من المشاكل الصغيرة مشاكل أكبر , ويصبح الشكل الصغير لديك , كتمثال أبي الهول تماماً .. ظروفك كظروفي وظروف الأخريات , كلّنا نعيش واقعاً واحداً تقريباً , وما تشكين منه , أعايشه أنا قبل غيري . لكنّني أختلف عنك بأنني أتقبّل الأشياء بمسلماتها .. لاأفلسفها , لاأعقّدها .. وهكذا تستقيم الحال . "
كلام وفاء الذي توجهه لي بين فترة وأخرى , أعرف ماذا تبغي منه .. تريدني أن أتنبّه إلى ثغرة موجودة في شخصيتي .. تريد أن تقول لي : إنّ العيب موجود فيك , وليس في الظروف .
* * *
كان الدرب إلى بيتي ليس قصيراً و وقد تعمّدت أن أقطعه ماشية على قدميه , فهذا الدرب خبر خطواتنا ,ومشاويرنا , وأحاديثنا .. لذا فقد عشقت أشجاره وحجارته وناسه ,وشمسه , وقمره , وبيوته المترامية على طرفيه الواسعين . كانت بصماتي مع بصمات عاصم فوقه تشكّل زمنًا بحاله .. زمناً لم نستطع الحفاظ عليه,تسرّب من بين أصابعنا كما الرمل , ومن أمام عيوننا كم الشعاع . رحل , وبرحيله ماتت كلّ الأحلام .. اللون , والصوت , والأمنيات . لم يقل وداعاً , ذهب دون وداع .
قرب إحدى الحدائق وقفت , غرقت في نشوة التوحد مع الموقف .
"على هذا المقعد كنت أجلس معك , نتكلم في كلّ شيء , نختلف ونتفق نتفق ونختلف ..كنّا نقرأ ,نقرأ كثيراً , ونتحاور فيما نقرأ . كنت تدافع عن زوربا , تتقمّص شخصيته , ترقص أمامي رقصته الخالدة , تحمل كتابك في يدك , وتبدأ في العزف عليه , مقلّداً آلة " الساناتوري " التي عزف عليها زوربا ذات يوم .. تدور , وتدور , ثمّ تفز بالهواء . من أجلك أعدت قرائة الرواية منذ أيّام فوجدت فيها فلسفتك القديمة عن الحياة .كنت تقول :
" الحياة يجب أن تعاش ,لا نضيعها , لا نقتلها , وإنما نحتضنها بخوا فقنا الدافئة دوماً ..هكذا يقول زوربا يا حبيبتي " .
أضحك , ثمّ نضحك معاً , ثمّ أتأبّط ذراعك ونمضي , نرسم للمستقبل بيتاً , وشمساً , وأطفالاً رائعين .. لا نشعر برتابة الأيّام , ولا يتسرّب إلى أوقاتنا شيء اسمه السأم .
* * *
من المؤكّد أنّ زوجي لن يكون الآن في المنزل , فدوامه المسائيّ عند أحد الأصدقاء لابدّ وقد بدأ. الساعة قاربت الثامنة , ولعبة الورق تنتظرهم على أحرّ من الجمر مجموعة من الذين عشقوا اللعبة , ووضعوا عندها أغلب طموحاتهم .. وقد قلت له أكثر من مرّه :
_ آلا ترى معي أن كلّ ما تقومون به هو مضيعة للوقت , وليس منه أيّة فائدة .
_ ليس وحدنا ما نفعل هذا , فهي لعبة العصر الدارجة , وإذا لم نتسلّ بها فماذا نفعل ؟
بهذه الكلمات كان يجيبني , ثم يناور , ويبدّل الحديث , كي لا أستطيع الردّ عليه .
صديقتي وفاء أخبرتني , بأن زوجها يمارس الهواية نفسها منذ زمن بعيد , ولا يعود إلى فراشه قبل الثالثة صباحاً , لكنها اعتادت هذا , واعتبرته من صلب حياتها , فلا تعير غيابه أيّ اهتمام يذكر ولا أدري .. إن كنت أحسد صديقتي , أم أرثي لحالها ؟ .. هل أعتبرها عاقله , ناضجة تستوعب كلّ ما يدور حولها , أم أسلّم أنّها غير آبهة , أو غير موبالية , لأيّ تغير يطرأ على مسيرة عمرها ؟.
* * *
وصلت إلى أول الشارع الذي يتربّعه بيتي العزيز على قلبي , والذي أحبّه , وأحبّ من فيه أكثر من أيّ شيء في الدنيا .. غشاوة بسيطة تتراءى أمام مخيلتي , فأرى الأمور أكثر ضبابيّة .. تختلط صورة عاصم بصورة زوجي .. أتساءل :
" أيهما ستطغى على الأخرى ؟ وإلى متى ستستمر هذه الحال ؟ . الصورتان متمازجتان , تبدوان أحياناً بصورة واحدة , وبشكل واحد , وأحياناً أشعر أنّه يفصل بينهما قرن من الزمن , أو ربما قرنان , أو ربما دهر طويل طويل ليس له نهاية .. بينما أحاول أن أستعيد أنموذجاً رائعاً لأحد الرجال , كما أستعيد تفاصيل حياتنا الماضية بكلّ ما فيها من دقائق غالية على قلبي ونفسي , كما أستعيد كلماتك الموشومة أمام عينيّ :
" من واجبنا أن نقيض على اللحظة , ونقول لها :
_ أيّتها اللحظة الجميلة انتظري , فنجن مازلنا هنا .. "
* * *
حينا أصبحت قربة من منزلي حاولت أن أخنق العبرة في مقلتي , أنصب على شفتيّ تمثال الابتسامة المتجمدّ , وان أعود لذاتي من عمر مضى .. ندهت :
_ عاصم ..
في البداية لم أسمع صوتي لأن صوتي لم يقترب من أذنيّ . ندهت :
_ عاصم ..
ارتفع الصوت قليلاً ثم بدأ يتحوّل في أنحاء المكان . طرقت الباب سأل القادم :
_ من ؟ ..
لم أجب .. فقد تواردت إليّ كلّ المشاعر الحارّة عند سماع صوته .. جاءني الماضي حاضراً لا أريد له أن يغيب .. رجعت بلحظة , أميرة الوقت , وسيّدة الومضات . عادت أحاديثنا , مشاويرنا , مواعيدنا , كتبنا , .. كل شيء عاد . أستطيع في هذا الوقت الرؤية تماماً . لم تعد أحزاني متفرقة لقد تكرّثت رحلة العمر الطويلة في حيّز ضيّق , ضيّق . عرفت الآن سبب قلقي الذي أعيش . لقد فتح لي عاصم الباب , مغادراً المنزل إلى سهرته اليومية , فلا بدّ أنّ الأصحاب على طاولة اللعب بانتظاره .
* * *
الخميس يونيو 14, 2018 10:21 pm من طرف Jaber
» (العالم والمتعلم)
الخميس يونيو 14, 2018 10:17 pm من طرف Jaber
» (الستر على المؤمن)
الخميس يونيو 14, 2018 10:14 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:11 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:09 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:06 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:04 pm من طرف Jaber
» قبسات من أنوار الإمام المعز لدين الله عليه السلام
الخميس يونيو 14, 2018 9:33 pm من طرف Jaber
» أفيقوا ياأخوة المعنى ولا تكونوا نظراء في التراكيب
الإثنين مارس 26, 2018 8:03 pm من طرف أبابيل
» طلب معلومات عن حجج الله
الإثنين أكتوبر 23, 2017 10:42 pm من طرف أبابيل
» التلاعب بالترددات
الخميس أبريل 27, 2017 8:22 pm من طرف العتيق
» عرفوني على مذهبكم لعلي أكون منكم ومعكم
الإثنين مارس 20, 2017 2:48 pm من طرف zain.abdalkader