ما أن ودعت أبناءها لمدارسهم وبدأت تسقي ورود الحديقة على أنغام
هادئة , اعتادت على سماعها كل صباح ,
حتى دق الباب .
حاولت أن تخمن من الطارق في هذه الساعة من الصباح , وهي تتجه صوب الباب
لفتحه ... دون جدوى .
واستغربت عندما طالعها وجه جارتها المقطب ,التي تقطن البيت الذي يلي
بيتها .
كانت جارتها قد سكنت منذ شهور قربها, إلا أنها لا تعرف عنها إلا ما تسمعه
عرضاً من الجيران .
كم مرة عزمت على زيارتها إلا أنها كانت تعتذر بحجج واهية .. وبدى جلياً
عدم رغبتها بمخالطة أحد .
قالت بعد أن حيتها بتجهم :
- جارتي .. لا أدري إلى متى علي أن أتحمل نفس الأسطوانة الموسيقية ,
وأستيقظ على أنغامها .
لو تعرفين كم تثير كآبتي , وكم أحاول أن أغطي رأسي .. مرة باللحاف
ومرة بالوسادة .. كي لا أسمع .
هذه الموسيقى أشبه بمسامير تنخر عظمي حتى النخاع , وطبول تقرع في رأسي
بلا رحمة .
أمل التي باغتها هكذا هجوم صباحي .. ردت مبتسمة :
عفواً يا جارتي العزيزة , فأنا أحرص على عدم رفع صوت آلة التسجيل لفهمي
أن " الناس أذواق " , ومع ذلك
– تكرمي – لن أزعجك بصوتها بعد الآن .. أنت عندي أهم من مزاج شخصي .
انفردت ملامح وجهها قليلاً , فدعتها أمل بود :
ما رأيك أن تشاركيني القهوة .. لقد أعددتها لتوي .
وما كان أسرع استجابتها للدعوة فوراً, وهذا ما جعل أمل شديدة الذهول
للحظات .
جلستا معاً تحت ظل العريشة , بينما راحت عيناها تستطلعان المكان بحذر
وانكماش .
قرأت أمل في عيني ضيفتها تاريخاً موغلاً في القدم .. وحزناً دفيناً تأصل
فيهما ولا يبغي فكاكاً ..
واستنتجت بحدسها أن القصة ليست قصة موسيقى مزعجة , وتباين أمزجة ..
وأن سبب قدومها بحد ذاته مصطنع .
ثم أدركت كم تحس بالوحدة والوحشة .
لكنها .. راحت تبحث عن طريقة تجعلها تطمئن إليها وتبوح بما عندها دون
حرج .
بدأت أمل تحدثها بتلقائية عن أمور صغيرة حميمة في حياتي , كأنها
تعرفها منذ سنين ..
بغيتها أن تخرجها من صمتها .
حدثتها عن هموم الأولاد .. عن زوجها وبعض طباعه .. وأشياء أخرى كثيرة .
ثم علقت في النهاية :
لطالما رغبت أن نتزاور , لحاجتي للتواصل مع إنسان أرتاح إليه ,
ونتشارك معاً أفراحنا وأتراحنا .
لكنني لم ألق لديك ما يشجع على ذلك .. أنت بعيدة عن الجميع .. لا أدري
لماذا ؟!
- لا أحب الناس , وليسوا مصدر سعادة لي .. ولا أهلاً للثقة . عندما يحكم
علي بالتواجد بين حشد منهم ..
أتخيلهم حشرات , وتراودني فكرة مجنونة .. أن تكون بيدي مذبة أو " بيف
باف " وأقضي عليهم جميعاً .
أرعبتها الفكرة جداً , ولكنها ابتسمت بهدوء وعلقت : على ألا أكون بينهم
..
وضحكتا معاً .
يبدو أنها ارتاحت وبدأ المرجل الذي يغلي بداخلها يطوف بما فيه :
- أحسدك على حياتك الهانئة .. لا أتصور أن هناك ما يعكر حياتك .
لشهور وأنا أصغي لحديثك مع صغارك وزوجك وجيرانك .. وأراهن بيني وبين
نفسي أنك يوماً ما ستملئين
الحي زعيقاً وصراخاً, وأن هدوءك ما هو إلا نوع من الكبت والمداراة ,
سينتهي بك إلى الانهيار أو الانفجار .
لم تعلق أمل .. بل اكتفت بالابتسام .. أما هي فغامت عيناها .. وبدت
كأنها رحلت بعيداً جداً عن مضيفتها ,
فأعادتها بقولها :
- طيبتك لا تنسجم مع كل هذا الحزن .. هل أطمح أن أكون بئراً لأسرارك .
- .....
- حدثيني عنك .. لعلي أقدر أن أحمل بعض همك معك
- آآآآه يا عزيزتي .. لن يروقك حديث مثل حديثي
وكيف ستفهمين علي إن قلت لك :
" هناك ذئب يعوي بألم في داخلي , ولا يكف لحظة عن العواء مهما احتلت عليه
.
أو حدثتك عن أغلال تربطني بصخرة , وتشدني نحو الأعماق بلا هوادة .
أو عن النار المضطرمة في صدري التي لا أدري من يزكيها ويأججها باستمرار .
أو عن سؤال يدوي في رأسي بلا توقف : لماذا علي أن أحمل أخطاء أسلافي .
لماذا سأظل إلى أن أموت حاملة حقيبة مورثات بعثر أبواي محتوياتها في
دمي قبل أن يغادراني ,
وكان هذا كل إرثهما لي . ولو تزوجت لظلمت أولادي بنقلها بدوري إليهم .
وتربية فاشلة تركت بصماتها على روحي وفكري .
لم أكون ابنة الخطيئة وتكونين ابنة الفضيلة والشرف ؟
من وزع الأدوار ؟؟
ولماذا أعطاك وحرمني ؟
لا أريد أن تستعرضي لي نظريات حول ذلك ..
من قائل .. أنه تحصيل لأخطاء في حيوات سابقة .
أو قائل .. نقلاً عن حديث شريف : الزاني سيزنى به ولو بعد سبعة أجيال .
أو قائل .. هو تطهير للنفس بنار الدنيا , لتترقى للغاية التي أرادها لها
خالقها .
أو قائل .. أو امتحان وابتلاء ليرى صبرنا , ويكافئنا عليه آخر الأمر ,
كما يكافئ طفل بقطعة حلوى على
واجب قام به بجلد .
أو .. أو ..
لأنها في النهاية ليست إلا نظريات اخترعناها .. أو بالأصح اخترعوها لنا
لنتقبل الواقع بكل سخريته وتناقضاته .
وكيف السبيل لأخرس كل إشارات الاستفهام التي تمد لي لسانها في الظلام
تستهزئ مني ومن أعصابي المشدودة
كأوتار العود . " ؟؟؟
أحست أمل فجأة بحزن طاغ ولم تدر للحظات ماذا تفعل لتخفف من ألم
صاحبتها.. إذ رأت كم هي محقة في كل
ما قالت من وجهة نظرها وموقعها في الحياة .
وراحت تبحث عن كلمات تقولها تليق بكل هذه المعاناة .. فلم تجد .
أما هي فاستطردت متسائلة :
هل زرت يوماً السجون , وخاصة السجون الانفرادية , وأصغيت إلى معاناة
المساجين .. أو رأيت طرق
التعذيب المبتكرة .
هل زرت مأوى العجزة .. أو عجزة دون مأوى .
هل زرت دار الأيتام .. أو أيتاماً دون دار .
هل خطر لك القيام بجولة على المشافي , وخاصة تلك التي انفردت لعلاج
الأمراض المستعصية .
أو هل ذهبت يوماً لمشفى الأمراض العصبية , وتأملت المرضى واحداً واحداً ..
حيث لكل منهم قصة مختلفة .
هل التقيت بذوي العاهات الدائمة , التي لا أمل في شفائها .
هل تسللت لأوكار الحشاشين والمدمنين .. وعايشت تجربتهم وأحاسيسهم ؟
هل صادفت يوماً لقيطاً .. وجدوه قرب " الجامع " .. لا يعرف شيئاً عن أبويه ؟
هل قصدت الملاهي ودور البغاء ؟
أو عرفت من لا تطفئ رغبته إلا بممارسة شاذة ؟
قولي لي ماذا تعرفين عن البؤس والفقر والشقاء !؟
وساد صمت
أحست أمل أن لديها الكثير لتقوله ..
ودت لو تفهمها أنها تعيش المأساة كل لحظة , رغم هدوئها واطمئنانها .
وأن رفضنا للواقع لم ولن يغير في الأمر شيئاً .
لكن من في فمه طعم المرار .. هيهات .. يستسيغ العسل
ثم المشكلة بالنسبة لها من أين تبدأ.. دون أن تجرح مشاعرها ؟
ووجدت نفسها تقول :
صديقتي : كم أتوق لأسمع حكايتك من البداية .. لأنني أرى أن للقصة جذوراً
عميقة ..
هل لي أن أسأل : كيف كانت طفولتك ؟
- كانت طفولة شقية , تجعلني حتى الآن أنقم على كل طفل يعيش بسعادة بظل
أبوين متفاهمين .
لا أذكر من طفولتي إلا نشيجاً متواصلاً في السرير , من اللحظة التي كانت
تطفئ بها الضوء وتغلق علي
بالمفتاح قبل أن تذهب لتمارس فجورها في الغرفة المجاورة .
- وأبوك
كان ملهياً بطاولات القمار .. ومات على إحداها ذات ليلة .
- هل كانت لك صديقات
- لا .. ظللت أشعر بالعداء تجاه الجميع , وأنفر من كل من يحاول
التقرب إلي .
- ما أحزن قصتك يا صديقتي .. ولكن هل تعتقدين أن الحل بتجنب الآخرين ,
لشعورنا أنهم لن يفهموا علينا
وسيسخرون من معاناتنا .
لأننا في النهاية نحتاج للآخر , وإن اختلف في تفكيره عنا .
لم تكن تسمعها .. بل كانت تغرق أكثر فأكثر في باطنها بحزن :
- عندما كنت صغيرة أخذتني أمي إلى أحد المشايخ ممن يحضرون
الأرواح .. أو يدعون قدرتهم على
طردها من الأجساد التي تسكنها .
قال أنني مسكونة , وأن هناك جنيا أو قرينا هو سبب تصرفاتي غير الطبيعية
.
وبدأ يضربني بلا رحمة ليخرج الروح الساكن بي .
- وهل خرج
- ...
أخذتني بعدها إلى آخر قال أن قريني قوي وصعب .. لن يخرج إلا بمجامعة
الشيخ لي
- وهل قبلت
- لم أكن أملك أن أقبل أو أرفض .
عندما كبرت , فكرت باستشارة طبيب نفسي , فقد كانت معاناتي فوق قدرتي
على التحمل .
ولشهور راح يعطيني حبوباً مهدئة .. تجعلني أنام لساعات طويلة شبه ميتة .
وقررت فجأة رميها .. فقد كانت مثله ومثل كل هذه الحياة مجرد كذبة مثيرة
للسخرية .
رحت بعدها أتعاطى المشروبات الروحية .. وأقيم علاقات عابرة مع رجال لا
أعرف عنهم شيئاً .
كنت أشرب , لأتقيأ ما شربت .
وأستدرج من أختار من الرجال , لأسخر من رجولتهم في النهاية .
ووجدت أمل نفسها تبكي بحرقة وهي تحتضنها وتمسد شعرها :
- هل تقبلينني أماً لك أو أختاً .
لأنني أحتاجك بنفس مقدار حاجتك لي .. وربما أكثر .
وكان ردها بكاء حاراً كأنها لم تبك منذ دهر .
تركتها حتى هدأت , ثم عرضت فكرتها :
- اسمعي .. هل توافقين على الذهاب معي غداً في مشوار دون أن تسألي إلى أين
.
هي محاولة وإن لم تعجبك .. لا تكرريها .
وكغريق لا يملك إلا أن يتعلق بقشة وافقت .
كانت أمل منذ سنين قد تعرفت إلى صديق اختبر الحياة , بطريقة غريبة.
سافر لأعوام إلى الهند .. وهناك تعلم الحكمة بطريقة مختلفة عن كل ما نعرف
.
ترى تلك المدرسة في الحكمة , أنك لن تستطيع أن تصف دواء .. لمريض ..
وداء .. لا تعرف عنهما شيئاً .
وهكذا انغمس في الشر والحزن والألم بطريقة مجنونة , ولكن بروح محصنة من
أن يعلق عليها أثر منها ..
كقطرة زيت في كأس ماء .
وكان عليك إن أردت لقياه أن تذهب وتبحث عنه في أكثر الأماكن شبهة , مع
اللصوص والمدمنين والمنحرفين .
أو في أشد الأحياء بؤساً وتخلفاً .
كانت أمل قد لجأت إليه يوماً في أكثر مراحل حياتها مرارة وسواداً .. وكان
له الفضل الكبير بتغيير مجرى حياتها
وتفكيرها .
واهتدت فجأة إلى فكرة : " إن شفاء جارتها سيكون على يديه ".
........................
........................
لم تخبرنا أمل عما جرى بين جارتها وذلك الحكيم .
ولا عن الأحاديث التي تبادلاها .. لأنها بطبيعة الحال لم تكن معهما .
اكتفت بالقول أن جارتها أضحت أقرب الناس إليها .
وأنها تحرص كل صباح أن تحتسي القهوة معها .
على شرط ... أن تكون مع أنغام هادئة .
أما أنا التي كنت أصغي لقصة أمل بانفعال واضح .. فقد رحت أتمتم وأنا
أبتسم مدارية دمعتي :
ليت النهايات تكون سعيدة دائماً .. كهذه النهاية .
&&&
محبتي
ثناء
هادئة , اعتادت على سماعها كل صباح ,
حتى دق الباب .
حاولت أن تخمن من الطارق في هذه الساعة من الصباح , وهي تتجه صوب الباب
لفتحه ... دون جدوى .
واستغربت عندما طالعها وجه جارتها المقطب ,التي تقطن البيت الذي يلي
بيتها .
كانت جارتها قد سكنت منذ شهور قربها, إلا أنها لا تعرف عنها إلا ما تسمعه
عرضاً من الجيران .
كم مرة عزمت على زيارتها إلا أنها كانت تعتذر بحجج واهية .. وبدى جلياً
عدم رغبتها بمخالطة أحد .
قالت بعد أن حيتها بتجهم :
- جارتي .. لا أدري إلى متى علي أن أتحمل نفس الأسطوانة الموسيقية ,
وأستيقظ على أنغامها .
لو تعرفين كم تثير كآبتي , وكم أحاول أن أغطي رأسي .. مرة باللحاف
ومرة بالوسادة .. كي لا أسمع .
هذه الموسيقى أشبه بمسامير تنخر عظمي حتى النخاع , وطبول تقرع في رأسي
بلا رحمة .
أمل التي باغتها هكذا هجوم صباحي .. ردت مبتسمة :
عفواً يا جارتي العزيزة , فأنا أحرص على عدم رفع صوت آلة التسجيل لفهمي
أن " الناس أذواق " , ومع ذلك
– تكرمي – لن أزعجك بصوتها بعد الآن .. أنت عندي أهم من مزاج شخصي .
انفردت ملامح وجهها قليلاً , فدعتها أمل بود :
ما رأيك أن تشاركيني القهوة .. لقد أعددتها لتوي .
وما كان أسرع استجابتها للدعوة فوراً, وهذا ما جعل أمل شديدة الذهول
للحظات .
جلستا معاً تحت ظل العريشة , بينما راحت عيناها تستطلعان المكان بحذر
وانكماش .
قرأت أمل في عيني ضيفتها تاريخاً موغلاً في القدم .. وحزناً دفيناً تأصل
فيهما ولا يبغي فكاكاً ..
واستنتجت بحدسها أن القصة ليست قصة موسيقى مزعجة , وتباين أمزجة ..
وأن سبب قدومها بحد ذاته مصطنع .
ثم أدركت كم تحس بالوحدة والوحشة .
لكنها .. راحت تبحث عن طريقة تجعلها تطمئن إليها وتبوح بما عندها دون
حرج .
بدأت أمل تحدثها بتلقائية عن أمور صغيرة حميمة في حياتي , كأنها
تعرفها منذ سنين ..
بغيتها أن تخرجها من صمتها .
حدثتها عن هموم الأولاد .. عن زوجها وبعض طباعه .. وأشياء أخرى كثيرة .
ثم علقت في النهاية :
لطالما رغبت أن نتزاور , لحاجتي للتواصل مع إنسان أرتاح إليه ,
ونتشارك معاً أفراحنا وأتراحنا .
لكنني لم ألق لديك ما يشجع على ذلك .. أنت بعيدة عن الجميع .. لا أدري
لماذا ؟!
- لا أحب الناس , وليسوا مصدر سعادة لي .. ولا أهلاً للثقة . عندما يحكم
علي بالتواجد بين حشد منهم ..
أتخيلهم حشرات , وتراودني فكرة مجنونة .. أن تكون بيدي مذبة أو " بيف
باف " وأقضي عليهم جميعاً .
أرعبتها الفكرة جداً , ولكنها ابتسمت بهدوء وعلقت : على ألا أكون بينهم
..
وضحكتا معاً .
يبدو أنها ارتاحت وبدأ المرجل الذي يغلي بداخلها يطوف بما فيه :
- أحسدك على حياتك الهانئة .. لا أتصور أن هناك ما يعكر حياتك .
لشهور وأنا أصغي لحديثك مع صغارك وزوجك وجيرانك .. وأراهن بيني وبين
نفسي أنك يوماً ما ستملئين
الحي زعيقاً وصراخاً, وأن هدوءك ما هو إلا نوع من الكبت والمداراة ,
سينتهي بك إلى الانهيار أو الانفجار .
لم تعلق أمل .. بل اكتفت بالابتسام .. أما هي فغامت عيناها .. وبدت
كأنها رحلت بعيداً جداً عن مضيفتها ,
فأعادتها بقولها :
- طيبتك لا تنسجم مع كل هذا الحزن .. هل أطمح أن أكون بئراً لأسرارك .
- .....
- حدثيني عنك .. لعلي أقدر أن أحمل بعض همك معك
- آآآآه يا عزيزتي .. لن يروقك حديث مثل حديثي
وكيف ستفهمين علي إن قلت لك :
" هناك ذئب يعوي بألم في داخلي , ولا يكف لحظة عن العواء مهما احتلت عليه
.
أو حدثتك عن أغلال تربطني بصخرة , وتشدني نحو الأعماق بلا هوادة .
أو عن النار المضطرمة في صدري التي لا أدري من يزكيها ويأججها باستمرار .
أو عن سؤال يدوي في رأسي بلا توقف : لماذا علي أن أحمل أخطاء أسلافي .
لماذا سأظل إلى أن أموت حاملة حقيبة مورثات بعثر أبواي محتوياتها في
دمي قبل أن يغادراني ,
وكان هذا كل إرثهما لي . ولو تزوجت لظلمت أولادي بنقلها بدوري إليهم .
وتربية فاشلة تركت بصماتها على روحي وفكري .
لم أكون ابنة الخطيئة وتكونين ابنة الفضيلة والشرف ؟
من وزع الأدوار ؟؟
ولماذا أعطاك وحرمني ؟
لا أريد أن تستعرضي لي نظريات حول ذلك ..
من قائل .. أنه تحصيل لأخطاء في حيوات سابقة .
أو قائل .. نقلاً عن حديث شريف : الزاني سيزنى به ولو بعد سبعة أجيال .
أو قائل .. هو تطهير للنفس بنار الدنيا , لتترقى للغاية التي أرادها لها
خالقها .
أو قائل .. أو امتحان وابتلاء ليرى صبرنا , ويكافئنا عليه آخر الأمر ,
كما يكافئ طفل بقطعة حلوى على
واجب قام به بجلد .
أو .. أو ..
لأنها في النهاية ليست إلا نظريات اخترعناها .. أو بالأصح اخترعوها لنا
لنتقبل الواقع بكل سخريته وتناقضاته .
وكيف السبيل لأخرس كل إشارات الاستفهام التي تمد لي لسانها في الظلام
تستهزئ مني ومن أعصابي المشدودة
كأوتار العود . " ؟؟؟
أحست أمل فجأة بحزن طاغ ولم تدر للحظات ماذا تفعل لتخفف من ألم
صاحبتها.. إذ رأت كم هي محقة في كل
ما قالت من وجهة نظرها وموقعها في الحياة .
وراحت تبحث عن كلمات تقولها تليق بكل هذه المعاناة .. فلم تجد .
أما هي فاستطردت متسائلة :
هل زرت يوماً السجون , وخاصة السجون الانفرادية , وأصغيت إلى معاناة
المساجين .. أو رأيت طرق
التعذيب المبتكرة .
هل زرت مأوى العجزة .. أو عجزة دون مأوى .
هل زرت دار الأيتام .. أو أيتاماً دون دار .
هل خطر لك القيام بجولة على المشافي , وخاصة تلك التي انفردت لعلاج
الأمراض المستعصية .
أو هل ذهبت يوماً لمشفى الأمراض العصبية , وتأملت المرضى واحداً واحداً ..
حيث لكل منهم قصة مختلفة .
هل التقيت بذوي العاهات الدائمة , التي لا أمل في شفائها .
هل تسللت لأوكار الحشاشين والمدمنين .. وعايشت تجربتهم وأحاسيسهم ؟
هل صادفت يوماً لقيطاً .. وجدوه قرب " الجامع " .. لا يعرف شيئاً عن أبويه ؟
هل قصدت الملاهي ودور البغاء ؟
أو عرفت من لا تطفئ رغبته إلا بممارسة شاذة ؟
قولي لي ماذا تعرفين عن البؤس والفقر والشقاء !؟
وساد صمت
أحست أمل أن لديها الكثير لتقوله ..
ودت لو تفهمها أنها تعيش المأساة كل لحظة , رغم هدوئها واطمئنانها .
وأن رفضنا للواقع لم ولن يغير في الأمر شيئاً .
لكن من في فمه طعم المرار .. هيهات .. يستسيغ العسل
ثم المشكلة بالنسبة لها من أين تبدأ.. دون أن تجرح مشاعرها ؟
ووجدت نفسها تقول :
صديقتي : كم أتوق لأسمع حكايتك من البداية .. لأنني أرى أن للقصة جذوراً
عميقة ..
هل لي أن أسأل : كيف كانت طفولتك ؟
- كانت طفولة شقية , تجعلني حتى الآن أنقم على كل طفل يعيش بسعادة بظل
أبوين متفاهمين .
لا أذكر من طفولتي إلا نشيجاً متواصلاً في السرير , من اللحظة التي كانت
تطفئ بها الضوء وتغلق علي
بالمفتاح قبل أن تذهب لتمارس فجورها في الغرفة المجاورة .
- وأبوك
كان ملهياً بطاولات القمار .. ومات على إحداها ذات ليلة .
- هل كانت لك صديقات
- لا .. ظللت أشعر بالعداء تجاه الجميع , وأنفر من كل من يحاول
التقرب إلي .
- ما أحزن قصتك يا صديقتي .. ولكن هل تعتقدين أن الحل بتجنب الآخرين ,
لشعورنا أنهم لن يفهموا علينا
وسيسخرون من معاناتنا .
لأننا في النهاية نحتاج للآخر , وإن اختلف في تفكيره عنا .
لم تكن تسمعها .. بل كانت تغرق أكثر فأكثر في باطنها بحزن :
- عندما كنت صغيرة أخذتني أمي إلى أحد المشايخ ممن يحضرون
الأرواح .. أو يدعون قدرتهم على
طردها من الأجساد التي تسكنها .
قال أنني مسكونة , وأن هناك جنيا أو قرينا هو سبب تصرفاتي غير الطبيعية
.
وبدأ يضربني بلا رحمة ليخرج الروح الساكن بي .
- وهل خرج
- ...
أخذتني بعدها إلى آخر قال أن قريني قوي وصعب .. لن يخرج إلا بمجامعة
الشيخ لي
- وهل قبلت
- لم أكن أملك أن أقبل أو أرفض .
عندما كبرت , فكرت باستشارة طبيب نفسي , فقد كانت معاناتي فوق قدرتي
على التحمل .
ولشهور راح يعطيني حبوباً مهدئة .. تجعلني أنام لساعات طويلة شبه ميتة .
وقررت فجأة رميها .. فقد كانت مثله ومثل كل هذه الحياة مجرد كذبة مثيرة
للسخرية .
رحت بعدها أتعاطى المشروبات الروحية .. وأقيم علاقات عابرة مع رجال لا
أعرف عنهم شيئاً .
كنت أشرب , لأتقيأ ما شربت .
وأستدرج من أختار من الرجال , لأسخر من رجولتهم في النهاية .
ووجدت أمل نفسها تبكي بحرقة وهي تحتضنها وتمسد شعرها :
- هل تقبلينني أماً لك أو أختاً .
لأنني أحتاجك بنفس مقدار حاجتك لي .. وربما أكثر .
وكان ردها بكاء حاراً كأنها لم تبك منذ دهر .
تركتها حتى هدأت , ثم عرضت فكرتها :
- اسمعي .. هل توافقين على الذهاب معي غداً في مشوار دون أن تسألي إلى أين
.
هي محاولة وإن لم تعجبك .. لا تكرريها .
وكغريق لا يملك إلا أن يتعلق بقشة وافقت .
كانت أمل منذ سنين قد تعرفت إلى صديق اختبر الحياة , بطريقة غريبة.
سافر لأعوام إلى الهند .. وهناك تعلم الحكمة بطريقة مختلفة عن كل ما نعرف
.
ترى تلك المدرسة في الحكمة , أنك لن تستطيع أن تصف دواء .. لمريض ..
وداء .. لا تعرف عنهما شيئاً .
وهكذا انغمس في الشر والحزن والألم بطريقة مجنونة , ولكن بروح محصنة من
أن يعلق عليها أثر منها ..
كقطرة زيت في كأس ماء .
وكان عليك إن أردت لقياه أن تذهب وتبحث عنه في أكثر الأماكن شبهة , مع
اللصوص والمدمنين والمنحرفين .
أو في أشد الأحياء بؤساً وتخلفاً .
كانت أمل قد لجأت إليه يوماً في أكثر مراحل حياتها مرارة وسواداً .. وكان
له الفضل الكبير بتغيير مجرى حياتها
وتفكيرها .
واهتدت فجأة إلى فكرة : " إن شفاء جارتها سيكون على يديه ".
........................
........................
لم تخبرنا أمل عما جرى بين جارتها وذلك الحكيم .
ولا عن الأحاديث التي تبادلاها .. لأنها بطبيعة الحال لم تكن معهما .
اكتفت بالقول أن جارتها أضحت أقرب الناس إليها .
وأنها تحرص كل صباح أن تحتسي القهوة معها .
على شرط ... أن تكون مع أنغام هادئة .
أما أنا التي كنت أصغي لقصة أمل بانفعال واضح .. فقد رحت أتمتم وأنا
أبتسم مدارية دمعتي :
ليت النهايات تكون سعيدة دائماً .. كهذه النهاية .
&&&
محبتي
ثناء
الخميس يونيو 14, 2018 10:21 pm من طرف Jaber
» (العالم والمتعلم)
الخميس يونيو 14, 2018 10:17 pm من طرف Jaber
» (الستر على المؤمن)
الخميس يونيو 14, 2018 10:14 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:11 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:09 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:06 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:04 pm من طرف Jaber
» قبسات من أنوار الإمام المعز لدين الله عليه السلام
الخميس يونيو 14, 2018 9:33 pm من طرف Jaber
» أفيقوا ياأخوة المعنى ولا تكونوا نظراء في التراكيب
الإثنين مارس 26, 2018 8:03 pm من طرف أبابيل
» طلب معلومات عن حجج الله
الإثنين أكتوبر 23, 2017 10:42 pm من طرف أبابيل
» التلاعب بالترددات
الخميس أبريل 27, 2017 8:22 pm من طرف العتيق
» عرفوني على مذهبكم لعلي أكون منكم ومعكم
الإثنين مارس 20, 2017 2:48 pm من طرف zain.abdalkader