طرفا الحقيقة
- يا لك من حالمةٍ واهمة!!
- ما الحلم إلا براق الحقيقة، وثمة فضاء بين أوهام الحقائق وحقائق الأوهام. وقد يكون ما أرسمه هنا، صورةَ حلمٍ جميلٍ، فاضَ مدادُ الأنبياء وسالت دماء الأولياءِ، عبر العصور، لتبدعَ مدينةً فاضلةً، فظلَّت تلك المدينةُ، التي ربُّها وخالقها حضرة الإنسان، مجرَّدَ تصوُّراتٍ ورغباتٍ اغتالها الفكرُ البشريُّ كعادته، الذي يتمثلُ بالإنسان القويِّ القادرِ الجبَّارِ المهيمنِ، الذي يسحقُ كلَّ ما يخالف تصوراتِه أو يمسُّ مصالحَه الماديَّة والمعنويَّة.
إلا أنني أدركُ بالمقابلِ أنه ما من شيء يضيع، وأن قوَّة الفكرة الخيِّرة، تكون بمقدار قدرتنا على تجسيدها وتفعيلها وتسطيرها سلوكًا إنسانيًا أخلاقيًّا، لتكون فعلاً لا ردَّ فعل متحرِّض آنيٍّ. وحين تنسابُ بتلقائيَّة، تلاقي مثيلاتها من الطاقات الإيجابيَّة، فيتعزز حضورُها الإنسانيُّ، مقابلَ قوى الشرِّ وفنونِه وإبداعاتِه، التي يمكن لعين جميلة أن تراه إيجابيًا كمحرِّضٍ على ولادة الخير ونموه وتكاثره، إذا ما تساءلت بدءًا: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه مثنويًّا، ما بين خير وشر، بعد الهبوط والتجسُّد؟!
وبالتالي أما آن الأوان بعد للتخلِّي عن المفهوم الدنيويِّ للشرِّ، الذي لم يحلَّ حتى هذه اللحظة أبسط الإشكاليَّات المتنازع عليها طوال قرون، وتبني المعنى الأولي له، المطروح قرآنيًا، وعلى لسان الأنبياء والحكماء؟!
لأننا لو قدرنا على ذلك التخلِّي لخطونا خطوة رائعة وأساسية في اتجاه سلامنا الداخلي، وتصالحنا مع ذواتنا، ومع الآخر أيًّا كان، لتنعم هذه الكرةُ البائسة – أمنا الأرض – بسكينةٍ وهدوء لم تعرفهما يومًا، ولكفَّت عن الأنين والشكوى من قاطعٍ لصلة الرحم، منتهكٍ للحرم، سافكٍ للدم، لم يعرف عن نفسه إلا النذر القليل، فتعب وأتعبها جيلاً بعد جيل.
إذًا وفي رؤية فطريَّة للشر متمثلاً بالشيطان ووفق المعنى الأولي له، سنراه ليس إلا قوة إنسانيَّة، لا قوة فوقيَّة خارجة عن حدود ذاته، ووجود إلهي مخلوق لخدمة الإنسان لا ضدَّه، حيث لا يمكن لقوة الخير أن تملأ جميع مناطق الإنسان بأثرها من أجل تهذيبه. فالشيطان يكافئ الرحمن كمفهوم، وتجسيدهما ككلمة... إبليس والروح القدس. كينونتان إنسانيتان كانتا منذ الأزل وباقيتان إلى الأبد. تشكلان قوسي الوجود الباطني للإنسان، تدور بهما عجلةُ الإنسانية وعليهما تؤسس المشيئةُ الربوبيَّة.
لا يمكن السلوك إلى الحقيقة وإدراكها إلا بوجود إبليس. فهو ككينونة قوة انفعالية قادرة على الوصول إلى مختلف العوالم الإنسانيَّة المتناهية في الدقَّة والعمق.
كما لا يمكن نفيه عن أي إنسان لأنه تكوينه الآخر.
الأنبياء أيضًا، لكلٍّ منهم إبليسه، بل لعله أكثر حضورًا ووضوحًا معهم لأنهم قمم هذا المحيط الإنساني، فهم الأجدر بظهور الحقيقة من سواهم.
حتى عيسى عليه السلام كان له إبليسه، إنما ولأن عيسى كان تجسيدًا خاصًا للرحمانية، فقد جاء إبليس كرفيق له في مسيرته الجهادية الخاصَّة، أي ككينونة لا كوظيفة، بإبليسيته لا بشيطانيته، لذلك كان التعوذ من الشيطنة لا من إبليس. فأعاذ الله مريم وذريتها من الشيطان الرجيم.
أما محمد صلوات الله عليه وسلامه فقد أدرك أن الشرف كل الشرف أن يصل الإنسان إلى الحقيقة بكلِّ مكوناته آخذًا بناصية الوجود كله، فأسلم حتى شيطانه على يده وسار به إلى رؤاه. فقال: "لكل إنسان شيطان أما أنا فأعانني الله على شيطاني فأسلم".
إذا ما تبنينا هذا المفهوم الأولي للشر وراعيه كتكوين "إبليس"، والخير وراعيه كتكوين "الروح القدس" في الوجود الإنساني الكوني. وإذا ما آمنَّا أن الشيطان، كوظيفة، هو الطرف الآخر للحقيقة، أو صورتها الأخرى، ويكافئه الرحمن، موجود فينا جميعًا لخدمتنا، وعرفنا كيف نطوعه لأجل هذه الغاية، وحققنا وظيفته الإنسانية بالقدرة الإلهية المكنونة في كل منا، وصرنا قادرين على توظيفه حسب إرادتنا الخاصة، فإن الشياطين ستعمل معنا بدل أن تكون ضدنا، ولنا في شياطين سليمان، من الإنس والجان، مثلاً يحتذى، يبنون له ويغوصون لأجله، أو على الأقل مقرنون في الأصفاد وقد غلَّ أذاهم وعطِّلت وظيفتهم في عمل الشر.
وإذا عجزنا، أو لم نعرف، أو لا نريد، فإن الشيطان سيعمل وفق النظام الأولي وهو المنع والسلب والحجب، وسيقوم بالعمل ضدنا وينقلب علينا، وهذه حال العامة، والغالبية العظمى من البشر.
لنصل في النتيجة إلى أن جميع الأضداد - بما فيها الخير والشرُّ، الرحمن والشيطان- يمكن أن تفنى في الإنسان خالقها، كما يفنى الذكر والأنثى في آدم ويفنى آدم وإبليس في الله. وما النار والنور إلا تجسيد رائع لذلك. إذ يتبادلان أدوار الخير والشرِّ، ويرقصان رقصة التحول الباهرة، فيعلمانا أن كلَّ قيمة إنما تستمد قيمتها من الإنسان بارئها، وأن كلَّ القيم قابلة للتطويع فيه كالحديد، بشرط احتوائه على تلك النار التي تنصهر فيها كلُّ القيم، ومن ثم سكبها على قالبه الذي هيأه لها.
إنها نار العشق التي قال فيه من قال: "العشق ملَّة خالصة، ليس في العشق كفر ولا إيمان".
فطوبى لقلوب نارها من نورها ونورها من نارها.
تلك القلوب التي تلمَّست صورًا أخرى للخطيئة في الخطاب القرآني، غير صورتها كتضاد للعصمة. وشعرت بوجد الخطيئة، مثلما تشعر بوجد التوبة، لما جاءها الخطاب: "إن الله يحب المفتن التواب"، و"كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابين".
مضت بقدمي الرغبة والغواية، ولولا أخطأت ما استعصمت، فكانت تسير وهي عالمة أن الدرب مهما كان شرفه لا يزال يحمل خطيئته، ولكنها خطيئة أشرف من حسنة من لم يسلكوه فـ "حسنات الأبرار سيئات المقربين". فكان ظاهر خطيئتها سلوك وتجربة وباطنها فضيلة، لأن المؤمن لا يخطئ، طالما لم ينوي أو يقصد الخطأ "وما الأعمال إلا بالنيَّات"، بل يخوض النار كمجاهد، فما من خلاص إلا بخوضها "وإن منكم إلا واردها" فإذا بالنار نور.
وهكذا نصل لمعنى يختلف عن مفاهيم البشر، وهو أن الكمال لا يعني نفي الخطيئة، لأنها قدمنا الأخرى حتى سدرة المنتهى، بل إدراكها وتطويعها إذ لا وصول للكمال إلا بها. لتنجلي أمامنا ما كانت تلفُّه عتمة المفاهيم من قبول آدم للخطيئة ثم رفضها، في نزول ثم عروج، كذلك حال كلِّ نبي ووليٍّ، ليستحق أن تكون "بشرًا رسولا".
فآدم عصى ربه فغوى، ويوسف همَّ بها، وموسى قتل نفسًا، ومحمد عبس وتولَّى، لكن كل ذلك لا ينطوي تحت اسم الخطيئة، لأن نيَّته لم تكن السوء في أي حال من الأحوال، ولأن الأمور بغاياتها لا بمفاهيمها.
بذلك سيتكون لدينا مفهوم مختلفاً للعصمة، بعد أن أسدلنا حجابًا بيننا وبين مفاهيم الغير، وسيصير المفهوم حيَّة تسعى لمبتغاها ومعناها. فعصمة تأتي كصكٍّ معتمد من الإله، لا يستحقُّ الإنسان شرفها، لأنه لم ينلها استحقاقًا. وعصمة يختص بها فئة دون سواهم، تنفي عن الله صفة العدل، وتلغي اسمًا من اسمائه الحسنى وهو "العادل".
لكن الفكر الذي تغذَّى سنين عمره، على فتات موائد الآخرين، وسلَّم بصحة إرثٍ تلقَّاه من أسلافه كسقط المتاع، وخضع لقرون لقانون التفاضل والتصنيف، سترعبه فعلاً فكرة جديدة تقتحم استقرار وسكون مياهه الراكدة، رغم أنها تكرِّمه كإنسان، وترفعه سيِّدًا لا عبدًا.
إذ يصعب عليه تقبُّل مساواة عبد وضيع – كما يرى نفسه – مع أي نبي أو وليٍّ، وكيف يجرؤ أن يتطلع مثلاً إلى مقام سيِّد الخلق أجمعين محمد عليه السلام – أو مقام إمام معصوم كعلي كرَّم الله وجهه. فهؤلاء وفق ما صار بداهة لديه معصومون من قبل الخلق، وهم الذين قال فيهم تعالى: "الذين سبقت لهم منا الحسنى"، وما عليه سوى محبتهم وموالاتهم ليستحق أن يدخل الجنَّة عن طريق شفاعتهم له عند ربِّ العالمين!؟
فأينه من تلك المقامات الشاهقة، التي هيهات يصل إليها مهما تطاولت قامته، وهم الذين اختصهم الله بالوحي، وانتجبهم من بين سائر الخلق لحمل رسالته، لأنه الأعلم بصفاء سلالتهم المنتقلة من الأصلاب الزكيَّة إلى الأرحام الطاهرة!؟
لا يمكن لمن عششت هذه الفكرة في كلِّ خليَّة من تفكيره، أن يؤمن بسواها، ولو حاصرته بالدليل تلو الدليل. بل ولا يمكن أن يقبلك كإنسان مؤمن، بل تراه يخرجك عن الدين ويحلل قتلك، لأن قدسيَّة الفكرة تحجبه تمامًا عن رؤية سواها. وبالتالي فأيُّ معرفة حقيقية بديلة، تحتاج بدءًا إلى إقصاء المعرفة الأولى الكسبية، هذا الإقصاء الذي على ما يبدو يحتاج إلى الاستعداد الفطريِّ بدءًا، والشوق والرغبة في التحرُّر ثانيًا، بحيث يندر أن نجد النسر الحرَّ ابن الفضاء.
وسأسلِّم جدلاً بفكرة العصمة المسبقة، لأسأل نفسي وأسألكم: كيف يعرف أحدنا أنه من المنتجبين المعصومين؟
ولماذا يكون فلانًا سليل العصمة ووريثها، ولا يكون أيًّا منا؟
ماهو المعيار الذي اعتمدناه غير تصديقنا قوله أنه كذلك راجعًا إلى سلسلته التاريخيَّة التي تمنحه دون سواه صك العصمة المختوم.
ويبقى السؤال: أيُّ إمام أو قطب منهم نتَّبع، إذا ما رفضنا بدءًا أن نكون من القائلين: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".
لأن آباءنا كانوا ولا زالوا... "كلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى".
*** *** ***
يتبع في وقت آخر...
- يا لك من حالمةٍ واهمة!!
- ما الحلم إلا براق الحقيقة، وثمة فضاء بين أوهام الحقائق وحقائق الأوهام. وقد يكون ما أرسمه هنا، صورةَ حلمٍ جميلٍ، فاضَ مدادُ الأنبياء وسالت دماء الأولياءِ، عبر العصور، لتبدعَ مدينةً فاضلةً، فظلَّت تلك المدينةُ، التي ربُّها وخالقها حضرة الإنسان، مجرَّدَ تصوُّراتٍ ورغباتٍ اغتالها الفكرُ البشريُّ كعادته، الذي يتمثلُ بالإنسان القويِّ القادرِ الجبَّارِ المهيمنِ، الذي يسحقُ كلَّ ما يخالف تصوراتِه أو يمسُّ مصالحَه الماديَّة والمعنويَّة.
إلا أنني أدركُ بالمقابلِ أنه ما من شيء يضيع، وأن قوَّة الفكرة الخيِّرة، تكون بمقدار قدرتنا على تجسيدها وتفعيلها وتسطيرها سلوكًا إنسانيًا أخلاقيًّا، لتكون فعلاً لا ردَّ فعل متحرِّض آنيٍّ. وحين تنسابُ بتلقائيَّة، تلاقي مثيلاتها من الطاقات الإيجابيَّة، فيتعزز حضورُها الإنسانيُّ، مقابلَ قوى الشرِّ وفنونِه وإبداعاتِه، التي يمكن لعين جميلة أن تراه إيجابيًا كمحرِّضٍ على ولادة الخير ونموه وتكاثره، إذا ما تساءلت بدءًا: هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن فيه مثنويًّا، ما بين خير وشر، بعد الهبوط والتجسُّد؟!
وبالتالي أما آن الأوان بعد للتخلِّي عن المفهوم الدنيويِّ للشرِّ، الذي لم يحلَّ حتى هذه اللحظة أبسط الإشكاليَّات المتنازع عليها طوال قرون، وتبني المعنى الأولي له، المطروح قرآنيًا، وعلى لسان الأنبياء والحكماء؟!
لأننا لو قدرنا على ذلك التخلِّي لخطونا خطوة رائعة وأساسية في اتجاه سلامنا الداخلي، وتصالحنا مع ذواتنا، ومع الآخر أيًّا كان، لتنعم هذه الكرةُ البائسة – أمنا الأرض – بسكينةٍ وهدوء لم تعرفهما يومًا، ولكفَّت عن الأنين والشكوى من قاطعٍ لصلة الرحم، منتهكٍ للحرم، سافكٍ للدم، لم يعرف عن نفسه إلا النذر القليل، فتعب وأتعبها جيلاً بعد جيل.
إذًا وفي رؤية فطريَّة للشر متمثلاً بالشيطان ووفق المعنى الأولي له، سنراه ليس إلا قوة إنسانيَّة، لا قوة فوقيَّة خارجة عن حدود ذاته، ووجود إلهي مخلوق لخدمة الإنسان لا ضدَّه، حيث لا يمكن لقوة الخير أن تملأ جميع مناطق الإنسان بأثرها من أجل تهذيبه. فالشيطان يكافئ الرحمن كمفهوم، وتجسيدهما ككلمة... إبليس والروح القدس. كينونتان إنسانيتان كانتا منذ الأزل وباقيتان إلى الأبد. تشكلان قوسي الوجود الباطني للإنسان، تدور بهما عجلةُ الإنسانية وعليهما تؤسس المشيئةُ الربوبيَّة.
لا يمكن السلوك إلى الحقيقة وإدراكها إلا بوجود إبليس. فهو ككينونة قوة انفعالية قادرة على الوصول إلى مختلف العوالم الإنسانيَّة المتناهية في الدقَّة والعمق.
كما لا يمكن نفيه عن أي إنسان لأنه تكوينه الآخر.
الأنبياء أيضًا، لكلٍّ منهم إبليسه، بل لعله أكثر حضورًا ووضوحًا معهم لأنهم قمم هذا المحيط الإنساني، فهم الأجدر بظهور الحقيقة من سواهم.
حتى عيسى عليه السلام كان له إبليسه، إنما ولأن عيسى كان تجسيدًا خاصًا للرحمانية، فقد جاء إبليس كرفيق له في مسيرته الجهادية الخاصَّة، أي ككينونة لا كوظيفة، بإبليسيته لا بشيطانيته، لذلك كان التعوذ من الشيطنة لا من إبليس. فأعاذ الله مريم وذريتها من الشيطان الرجيم.
أما محمد صلوات الله عليه وسلامه فقد أدرك أن الشرف كل الشرف أن يصل الإنسان إلى الحقيقة بكلِّ مكوناته آخذًا بناصية الوجود كله، فأسلم حتى شيطانه على يده وسار به إلى رؤاه. فقال: "لكل إنسان شيطان أما أنا فأعانني الله على شيطاني فأسلم".
إذا ما تبنينا هذا المفهوم الأولي للشر وراعيه كتكوين "إبليس"، والخير وراعيه كتكوين "الروح القدس" في الوجود الإنساني الكوني. وإذا ما آمنَّا أن الشيطان، كوظيفة، هو الطرف الآخر للحقيقة، أو صورتها الأخرى، ويكافئه الرحمن، موجود فينا جميعًا لخدمتنا، وعرفنا كيف نطوعه لأجل هذه الغاية، وحققنا وظيفته الإنسانية بالقدرة الإلهية المكنونة في كل منا، وصرنا قادرين على توظيفه حسب إرادتنا الخاصة، فإن الشياطين ستعمل معنا بدل أن تكون ضدنا، ولنا في شياطين سليمان، من الإنس والجان، مثلاً يحتذى، يبنون له ويغوصون لأجله، أو على الأقل مقرنون في الأصفاد وقد غلَّ أذاهم وعطِّلت وظيفتهم في عمل الشر.
وإذا عجزنا، أو لم نعرف، أو لا نريد، فإن الشيطان سيعمل وفق النظام الأولي وهو المنع والسلب والحجب، وسيقوم بالعمل ضدنا وينقلب علينا، وهذه حال العامة، والغالبية العظمى من البشر.
لنصل في النتيجة إلى أن جميع الأضداد - بما فيها الخير والشرُّ، الرحمن والشيطان- يمكن أن تفنى في الإنسان خالقها، كما يفنى الذكر والأنثى في آدم ويفنى آدم وإبليس في الله. وما النار والنور إلا تجسيد رائع لذلك. إذ يتبادلان أدوار الخير والشرِّ، ويرقصان رقصة التحول الباهرة، فيعلمانا أن كلَّ قيمة إنما تستمد قيمتها من الإنسان بارئها، وأن كلَّ القيم قابلة للتطويع فيه كالحديد، بشرط احتوائه على تلك النار التي تنصهر فيها كلُّ القيم، ومن ثم سكبها على قالبه الذي هيأه لها.
إنها نار العشق التي قال فيه من قال: "العشق ملَّة خالصة، ليس في العشق كفر ولا إيمان".
فطوبى لقلوب نارها من نورها ونورها من نارها.
تلك القلوب التي تلمَّست صورًا أخرى للخطيئة في الخطاب القرآني، غير صورتها كتضاد للعصمة. وشعرت بوجد الخطيئة، مثلما تشعر بوجد التوبة، لما جاءها الخطاب: "إن الله يحب المفتن التواب"، و"كل بني آدم خطاؤون وخير الخطائين التوابين".
مضت بقدمي الرغبة والغواية، ولولا أخطأت ما استعصمت، فكانت تسير وهي عالمة أن الدرب مهما كان شرفه لا يزال يحمل خطيئته، ولكنها خطيئة أشرف من حسنة من لم يسلكوه فـ "حسنات الأبرار سيئات المقربين". فكان ظاهر خطيئتها سلوك وتجربة وباطنها فضيلة، لأن المؤمن لا يخطئ، طالما لم ينوي أو يقصد الخطأ "وما الأعمال إلا بالنيَّات"، بل يخوض النار كمجاهد، فما من خلاص إلا بخوضها "وإن منكم إلا واردها" فإذا بالنار نور.
وهكذا نصل لمعنى يختلف عن مفاهيم البشر، وهو أن الكمال لا يعني نفي الخطيئة، لأنها قدمنا الأخرى حتى سدرة المنتهى، بل إدراكها وتطويعها إذ لا وصول للكمال إلا بها. لتنجلي أمامنا ما كانت تلفُّه عتمة المفاهيم من قبول آدم للخطيئة ثم رفضها، في نزول ثم عروج، كذلك حال كلِّ نبي ووليٍّ، ليستحق أن تكون "بشرًا رسولا".
فآدم عصى ربه فغوى، ويوسف همَّ بها، وموسى قتل نفسًا، ومحمد عبس وتولَّى، لكن كل ذلك لا ينطوي تحت اسم الخطيئة، لأن نيَّته لم تكن السوء في أي حال من الأحوال، ولأن الأمور بغاياتها لا بمفاهيمها.
بذلك سيتكون لدينا مفهوم مختلفاً للعصمة، بعد أن أسدلنا حجابًا بيننا وبين مفاهيم الغير، وسيصير المفهوم حيَّة تسعى لمبتغاها ومعناها. فعصمة تأتي كصكٍّ معتمد من الإله، لا يستحقُّ الإنسان شرفها، لأنه لم ينلها استحقاقًا. وعصمة يختص بها فئة دون سواهم، تنفي عن الله صفة العدل، وتلغي اسمًا من اسمائه الحسنى وهو "العادل".
لكن الفكر الذي تغذَّى سنين عمره، على فتات موائد الآخرين، وسلَّم بصحة إرثٍ تلقَّاه من أسلافه كسقط المتاع، وخضع لقرون لقانون التفاضل والتصنيف، سترعبه فعلاً فكرة جديدة تقتحم استقرار وسكون مياهه الراكدة، رغم أنها تكرِّمه كإنسان، وترفعه سيِّدًا لا عبدًا.
إذ يصعب عليه تقبُّل مساواة عبد وضيع – كما يرى نفسه – مع أي نبي أو وليٍّ، وكيف يجرؤ أن يتطلع مثلاً إلى مقام سيِّد الخلق أجمعين محمد عليه السلام – أو مقام إمام معصوم كعلي كرَّم الله وجهه. فهؤلاء وفق ما صار بداهة لديه معصومون من قبل الخلق، وهم الذين قال فيهم تعالى: "الذين سبقت لهم منا الحسنى"، وما عليه سوى محبتهم وموالاتهم ليستحق أن يدخل الجنَّة عن طريق شفاعتهم له عند ربِّ العالمين!؟
فأينه من تلك المقامات الشاهقة، التي هيهات يصل إليها مهما تطاولت قامته، وهم الذين اختصهم الله بالوحي، وانتجبهم من بين سائر الخلق لحمل رسالته، لأنه الأعلم بصفاء سلالتهم المنتقلة من الأصلاب الزكيَّة إلى الأرحام الطاهرة!؟
لا يمكن لمن عششت هذه الفكرة في كلِّ خليَّة من تفكيره، أن يؤمن بسواها، ولو حاصرته بالدليل تلو الدليل. بل ولا يمكن أن يقبلك كإنسان مؤمن، بل تراه يخرجك عن الدين ويحلل قتلك، لأن قدسيَّة الفكرة تحجبه تمامًا عن رؤية سواها. وبالتالي فأيُّ معرفة حقيقية بديلة، تحتاج بدءًا إلى إقصاء المعرفة الأولى الكسبية، هذا الإقصاء الذي على ما يبدو يحتاج إلى الاستعداد الفطريِّ بدءًا، والشوق والرغبة في التحرُّر ثانيًا، بحيث يندر أن نجد النسر الحرَّ ابن الفضاء.
وسأسلِّم جدلاً بفكرة العصمة المسبقة، لأسأل نفسي وأسألكم: كيف يعرف أحدنا أنه من المنتجبين المعصومين؟
ولماذا يكون فلانًا سليل العصمة ووريثها، ولا يكون أيًّا منا؟
ماهو المعيار الذي اعتمدناه غير تصديقنا قوله أنه كذلك راجعًا إلى سلسلته التاريخيَّة التي تمنحه دون سواه صك العصمة المختوم.
ويبقى السؤال: أيُّ إمام أو قطب منهم نتَّبع، إذا ما رفضنا بدءًا أن نكون من القائلين: "هذا ما وجدنا عليه آباءنا".
لأن آباءنا كانوا ولا زالوا... "كلٌّ يدَّعي وصلاً بليلى".
*** *** ***
يتبع في وقت آخر...
الخميس يونيو 14, 2018 10:21 pm من طرف Jaber
» (العالم والمتعلم)
الخميس يونيو 14, 2018 10:17 pm من طرف Jaber
» (الستر على المؤمن)
الخميس يونيو 14, 2018 10:14 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:11 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:09 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:06 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:04 pm من طرف Jaber
» قبسات من أنوار الإمام المعز لدين الله عليه السلام
الخميس يونيو 14, 2018 9:33 pm من طرف Jaber
» أفيقوا ياأخوة المعنى ولا تكونوا نظراء في التراكيب
الإثنين مارس 26, 2018 8:03 pm من طرف أبابيل
» طلب معلومات عن حجج الله
الإثنين أكتوبر 23, 2017 10:42 pm من طرف أبابيل
» التلاعب بالترددات
الخميس أبريل 27, 2017 8:22 pm من طرف العتيق
» عرفوني على مذهبكم لعلي أكون منكم ومعكم
الإثنين مارس 20, 2017 2:48 pm من طرف zain.abdalkader