جاء في الرسالة التاسعة من رسائل إخوان الصفاء وخلان الوفاء عليهم السلام:
فصل فما حكاه ولي من أولياء الله عن كيفية معرفة مكايد الشياطين ومحاربته معهم ومخالفته جنود إبليس أجمعين
قال العالم المستبصر لأخ له من أبناء جنسه فيما جرى بينهما من المذاكرة في أمر الشياطين وعداو تهم: كيف عرفت الشياطين ووساوسهم، قال: إني لما نشأت وتربيت، وشدوت من الآداب طرففاً، وأخذت من العلم نصيباً، وعقلت من أمر المعاش قسطاً، وعرفت أمر المنافع والمضار، تبينت ما يجب علي من أحكام الناموس من الأوامر والنواهي والسنن والفرائض والأحكام والحدود والوعد والوعيد والذم والمدح على الأعمال والأفعال وعلى تركها، ثم قمت بواجبها جهدي وطاقتي بحسب ما وفقت له وقضي علي ويسر لي. ثم تفكرت في قول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" وقوله:" إن الشيطان كان للإنسان عدواً مبيناً" وآيات كثيرة في القرآن في هذا المعنى، وتفكرت في قول النبي- صلى الله عليه وآله-: رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، يعني مجاهدة النفس، وتصديقه قول الله تعالى:" ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه" وفكرت في قوله- عليه السلام-" لكل إنسان شيطانان يغويانه" وقوله:" إن شيطاني أعانني الله عليه فأسلم"، وقوله:" إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم" وتصديق ذلك قول الله تعالى:" من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس" إلى آخر السورة، وقوله تعالى:" إنه يراكم هووقبيلته من حيث لا ترو نهم" وآيات كثيرة في القرآن في مثل هذا المعنى وأحاديث مروية أيضاً في هذا المعنى كثيرة. فلما سمعت ما ذكر الله تعالى وتفكرت فيما روي عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في هذا المعنى، نظرت عند ذلك بعقلي، وفكرت بقلبي، وتأملت برويتي، فلم أر أحداً في ظاهر الأمر يضادني في هذا المعنى ولا يخالفني ولا يعاديني من أبناء جنسي، وذلك لأني وجدت الخطاب متوجهاً عليهم كلهم مثل ما هومتوجه علي، ووجدت حكمهم في ذلك حكمي سواء لا فرق بيني وبينهم في هذا الأمر، فعلمت أن هذا أمر عموم يشمل جميع بني آدم ويعمهم. ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت حقيقة معنى الشياطين، وكثرة جنود إبليس اللعين أجمعين، ومخالفتهم بني آدم، وعدوا تهم لهم، ووساوسهم إياهم، هي أمور باطنة وأسرار خفية مركوزة في الجبلة، مطبوعة في الخليقة، وهي الأخلاق الرديئة، والطباع المذمومة المنتشئة منذ الصبا مع الإنسان بالجهالات المتراكمة،
واعتقادات آراء فاسدة من غير معرفة ولا بصيرة، وما يتبعها من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة المكتسبة بالعادات الجارية، الخارجة من الاعتدال بالزيادة والنقصان، المنسوبة إلى النفس الشهوانية والنفس الغضبية، ثم تأملت ونظرت، فوجدت الخطاب في الأمر والنهي والوعد والوعيد والمدح والذم متوجهاً كله إلى النفس الناطقة العاقلة المميزة المستبصرة، ووجد تها هي بما توصف من الأخلاق الجميلة والمعارف الحقيقة والآراء الصحيحة والأعمال الزكية ملكاً من الملائكة بالإضافة إلى النفس الشهوانية والغضبية جميعاً. ووجدت هاتين النفسين، أعني الشهوانية والغضبية، بما توصفان به من الجهالات المتراكمة، والأخلاق المذمومة، الطباع المركوزة، والأفعال القبيحة التي لهما بلا فكر ولا روية كأ نهما شيطانان بالإضافة إلى النفس الناطقة.
ثم تأملت وبحثت ودققت النظر، فوجدت جميع الأعمال الزكية والأفعال الحسنة التي هي منسوبة إلى النفس الناطقة إنما هي لها بحسب آرائها الصحيحة واعتقاداتها الجميلة. ثم وجدت تلك الآراء والاعتقادات إنما هي لها بحسب أخلاقها المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والعادات الجارية العادلة، أوما كانت مركوزة في الجبلة، فتبينت عند ذلك، وعرفت بهذا الاعتبار أن أصل جميع
الخيرات وصلاح الإنسان كلها هي الأخلاق المحمودة المكتسبة بالاجتهاد والروية، والمركوزة في الجبلة، وتبين لي وعرفت أيضاً أن أصل جميع الشرور وفساد أمور الإنسان كلها هي الأخلاق المذمومة المكتسبة بالعادات الجارية منذ الصبا من غير بصيرة، وأما ما كانت مركوزة في الجبلة؛ فلما تبين لي ما قلت، وعرفت حقيقة ما وصفت، تأملت قول النبي-صلى الله عليه وعلى آله أجمعين: "رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وقول الله تعالى:" إن الشيطان لكم عدوفاتخذوه عدواً" يعني خالفوه وحاربوه كما تحاربون أعدائكم المشركين، فتبين لي بقول النبي - صلى الله عليه وسلم وقول الله- عز وجل- أن العدوجنسان والعداوة نوعان والجهاد قسمان: أحدهما ظاهر جلي، وهوعداوة الكفار والمخالفين في الشريعة، وحر بهم وجهادهم، والاخر باطن خفي، وهوعداوة الشياطين المخالفين في الجبلة المتضادين في الطبيعة، وتبين أن حربهم وعداوتهم وخلافهم هي الحقيقة، وعداوة الكفار وحربهم هي العرضية. وذلك أن عداوة الكفار هي من أجل أسباب دنيوية، وعداوة الشياطين من أجل أسباب دينية، وإن غلبتهم وظفرهم يعرض منها شقاوة الدنيا، ويفوت العز والسلطان والتمتع باللذات الدنيوية ونعيمها وطيب عيشها، ثم تزول يوماً ما. وأما عداوة الشياطين وغلبتهم وظفرهم فيعرض منها شقاوة الآخرة وعذابها، ويفوت عزها وسلطانها ونعيمها ولذاتها وسرورها وفرحها وروحها وريحانها ودوامها، فبحسب التفاوت ما بين هذين الأمرين، قال النبي- صلى الله عليه وآله وسلم:" رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر" وما ذكر الله سبحانه في القرآن في عدة سور في آيات كثيرة من التحذير من مكر الشياطين والغرور بخطراتهم، والأمر بمخالفتهم وعداوتهم والجهاد لهم، إذ كان الخطب فيهم أجل والخطر أعظم، بحسب التفاوت ما بين السعادتين في الدنيا والآخرة والشقاوة فيهما، فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، تبين لي أعدائي وشياطيني ومخالفي ومن يريد أن يغويني عن رشدي ويضلني عن هداي الذي دعاني إليه ربي وإلهي وأوصاني به، وما نصحني نبيي- عليه السلام- ببيانه لي، وعلمت أني إن لم أقبل وصية ربي ونصيحة نبيي، وأني متى توانيت وتركت الاجتهاد في مخالفة أعدائي وعدواتهم غلبوني وظفروا بي، وأسروني وملكوني واستخدموني في أهوائهم ومراداتهم المشاكلة لأفعالهم السيئة، وصارت تلك الأشياء عادة لي وجبلة في وطبيعة ثانية، فتصير نفسي الناطقة التي هي جوهرة شريفة شيطانة مثلهم، فأكون قد هلكت وبقيت في عالم الكون والفساد مع الشياطين
معذباً كما قال الله سبحانه:" كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلوداً غيرها" الآية، وكقوله تعالى: " لابثين فيها أحقاباً" الآية. ثم تفكرت وعرفت وتبين لي أني إذا قبلت وصية ربي ونصيحة نبيي، واقتديت بهما، واستعنت بربي وشمرت واجتهدت وخالفت هوى نفسي الشهوانية، وعاديت نفسي الغضبية، وحاربت أعدائي المخالفين لنفسي الناطقة، فإني أظفر بهم وأغلبهم بقوة ربي، وأملكهم بإذنه، وأستعبدهم بحوله وقوته، وأكون ملكاً عليهم وسلطاناً، ويصيرون كلهم عبيداً لي وخدماً وخولاً، فأصرفهم تحت أمر نفسي الناطقة ونهيها، وتكون هي عند ذلك ملكاً من الملائكة بإظهار أفعالها الحسنة وأعمالها الزكية وأخلاقها الجميلة وآرائها الصحيحة ومعارفها الحقيقية، وتكون هاتان النفسان الباقيتان، أعني الشهوانية والغضبية، عبدين مقهورين لها وتحت أمرها ونهيها، ويكون جميع أخلاقهما وسجاياهما كالجنود والأعوان والخدم والعبيد للنفس الناطقة، مسوسين بسياسة عادلة، جارية على هذا السداد، كما رسم في الشريعة الوضية أوفي الموجبات العقلية، فأكون عند ذلك قد فعلت ما وصاني به ربي بقولي وفعلي بقوله:" إن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه" الآية، وقال لنبيه- عليه السلام-:" قل هذه سبيلي أدعوإلى الله" الآية.
فلما تبين لي ما ذكرت وعرفت حقيقة ما وصفت، نظرت عند ذلك في أحوالي وتفكرت في تصاريف أموري، فوجدت بنية هيكلي مركبة من أخلاط ممتزجة، متضادة القوى، مركوزة فيها شهوات مختلفة، فتأملها فإذا هي كأنها نيران كامنة في أحجار كبريتية، ووجدت وقودها هي المشتهيات من ملاذ الدنيا ونعيمها، ووجدت اشتعال تلك النيران عند الوقود كأنها حريق لا يطفأ ولهب لا يخمد، أوكأمواج بحر متلاطمة، أورياح عاصفة تدمر كل شيء، أوكعساكر أعداء حملت في غارة، وذلك أني وجدت حرارة شهوات المأكولات والمشروبات في نفسي عند هيجان نار الجوع والظمأ كأنها لهب النيران التي لا تطفأ، ووجدت نفسي الشهوانية عند الأكل والشرب من الشره كأنها كلاب وقعت على جيف تنهش، ووجدت حرارة الحرص في نفسي عند هيجان نار الطمع كأنها حريق تلهب الدنيا كلها، ووجدت نفسي عند ذلك كأنها وعاء لا يمتلئ من جميع ما في الدنيا من المتاع، ووجدت حرارة الغضب في نفسي الحيوانية عند هيجان نار الحركة كأنها حريق ترمي بشرر كالقصر، ورأيتها عند هيجان حرارة نار
الافتخار والمباهاة كأنها خير خليقة الله وأشرفهم، ورأيتها عند هيجان نار حرارة شهوة الرياسة وتملكها لها كأن الناس كلهم عبيد لها وخول، ورأيتها عند هيجان حرارة نار شهوة الكرامة وطلبها كأنها دين لازم حال؛ ورأيتها عند هيجان نار طلب خدمة خولها كأنها ترى الطاعة لها حتماً فريضة كالطاعة لله، وكالحتم والفريضة، ورأيتها عند قضاء ما يجب عليها من حق من حقوق غيرها متوانية في تأديته كأا ناقلة أجبال، وكأنها عليها أحمال ثقيلة، ورأيت حركتها عند اللهوواللعب كأنها مجنونة والهة سكرانة؛ ورأيتها عند محبة المدح والثناء عليها كأنها أعقل الناس وأفضلهم وأجلهم؛ ورأيتها عند هيجان نار الحسد كأنها عدو يريد خراب الدنيا وزوال النعم عن أهلها وحلول النقم بهم؛ وعلى هذا المثال وجدت ورأيت سائر أخلاقها الرديئة وخصالها المذمومة وأعمالها السيئة وأفعالها القبيحة وآرائها الفاسدة، فعملت عند ذلك أن هذه كلها نيران لا تخمد وحريق لا يطفأ، وأعداء لا يتصالحون، وحرب لا تهدأ وقتال لا يسكن، وداء لا يبرأ ومرض لا يشفى، وعناء طويل، وشغل لا يفرغ منه إلى الموت.
فشمرت عند ذلك بالعزم الصحيح والنية الصادقة، وشددت وسطي بإزار الحزم، وأخذت سلاح الاجتهاد، وارتديت براءة الورع، ولبست قميص الحياء وتسربلت سربال الجد، ووضعت على رأسي تاج الزهد في الدنيا، وأثبت قدمي على التقوى، وأسندت ظهري إلى الله بالتوكل عليه، وجعلت شعاري الخوف منه والرجاء، وزممت قوى نفسي بالنهي، وفتحت عيني بالنظر إلى إشارة المعلم، وجعلت دليلي حسن الظن بربي، وسلكت منهاج السنة، وقصدت الصراط المستقيم للقاء ربي وناديته نداء الغريق، ودعوته دعوة المضطر، وأقررت بالعجز والتقصير، وطرحت نفسي بين يديه بلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتضرعت إليه مثل الصبي إلى والده الشفيق الرفيق.
فلما رآني ربي على تلك الحال سمع ندائي وأجاب دعائي ورحم ضعفي، وأعطاني سؤلي، وأمدني
بجنوده، ودلني على مكايد أعدائي، فغزوتهم مع ملائكته، وأظفرني بهم وأعانني عليهم وحرسني من غرورهم وأحرزني من خطواتهم، وسلمت من خطر كيدهم، وفزت بالغنيمة سالماً غانماً، ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً، وكفى الله المؤمنين القتال، وكان الله قوياً عزيزاً، وجند الله كانوا هم الغالبين، وحزب الشيطان كانوا هم الخاسرين، وكل هذا من فضل ربي ليبلوني: أأشكر
أم أكفر:" ومن شكر فإنما يشكر لنفسه، ومن كفر فإن ربي غني كريم".
الخميس يونيو 14, 2018 10:21 pm من طرف Jaber
» (العالم والمتعلم)
الخميس يونيو 14, 2018 10:17 pm من طرف Jaber
» (الستر على المؤمن)
الخميس يونيو 14, 2018 10:14 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:11 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:09 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:06 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:04 pm من طرف Jaber
» قبسات من أنوار الإمام المعز لدين الله عليه السلام
الخميس يونيو 14, 2018 9:33 pm من طرف Jaber
» أفيقوا ياأخوة المعنى ولا تكونوا نظراء في التراكيب
الإثنين مارس 26, 2018 8:03 pm من طرف أبابيل
» طلب معلومات عن حجج الله
الإثنين أكتوبر 23, 2017 10:42 pm من طرف أبابيل
» التلاعب بالترددات
الخميس أبريل 27, 2017 8:22 pm من طرف العتيق
» عرفوني على مذهبكم لعلي أكون منكم ومعكم
الإثنين مارس 20, 2017 2:48 pm من طرف zain.abdalkader