الحلاَّج
التصوُّف في ما وراء المعنى والخطِّ واللون
مي باسيل
يُشبِّه المؤلِّف صوفية الحلاج، التي يرى أن سُحُب الغموض تلفُّها "وتمنع كثيرين من رؤيتها على الحقيقة"، بتجربة المسيح؛ وإن كان الأقرب إلى الواقع أن الحلاج أحبَّها أن تكون كذلك، فتثمر الثمر نفسه.
بلغ الحلاج أرفع المراتب في عصر انتشر فيه التصوفُ وشيوخُه، فأضحى قمة من قمم التصوف. وإن كانت سيرتُه معروفةَ التفاصيل فإن انتماءه الفكري–السياسي وأقوالَه خضعت لتفسيرات اجتهد المهتمون في استخلاصها مما توافر لهم عنه، ويصعب، بالتالي، الجزم في أيٍّ منها نظرًا إلى تباين الحجج المتوافرة، مما يترك المجال مفتوحًا للتأويل: هل انتمى إلى القرامطة؟ أم إلى الدعوة الفاطمية؟ أم كان قريبًا منهما على التوالي لـ"روحه الثورية ودعوته إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي"؟
يعتبر سامي مكارم أن الحلاج انتحى في مفهومه منحًى مختلفًا عن المنحى التقليدي للتصوف؛ إذ أصبح التصوف لديه "جهادًا في سبيل إحقاق الحقِّ، ولم يعد مسلكًا فرديًّا بين المتصوف والله فحسب". والأرجح أنه تنقَّل بين الحالين، على ما يمكن لنا أن نستنتج من سيرته. ناصَر في بداياته ثورةَ الزنج والحركاتِ المناهضةَ فسادَ السياسيين وجورَهم، قبل أن يرتحل إلى الحج للمرة الأولى، فإلى الأهواز وخراسان، ثم يعود بأهله إلى بغداد وقد غدا صاحب كرامات، فتُنسَب إليه الشعوذةُ، وينطلق مجددًا في سعيه المعرفي، بالغًا هذه المرة الهند وتركستان ثم كشمير، حتى الأطراف الغربية للصين، حيث تعرَّف في كلِّ محطة إلى مسالك الحكمة فيها، قبل أن يعود ثانية إلى بغداد وقد ازداد تعمقًا فيها. بعد تلك الرحلة الثانية التي جمعت الناس حوله، أو ألَّبتْهم عليه أكثر، يبدو الحلاج وقد أُخِذَ عن الحياة والناس، حتى إنه أحسَّ بعزلة نفسية عن العالم، إذ يقول:
فهـا أنا في حبس الحياة ممنَّع * عن الإنس فاقبضني إليك من الحبس
أي أنه عاد إلى حدود التصوف والزهد كما نعرفها. لذا صاح مرة: "يا أهل الإسلام أغيثوني! فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح." ولعله كان يشعر في احتجابه عنه بأنه "عدم" – والقول أستعيره من مقال للمطران جورج خضر عنوانه "التواضع"، نُشِرَ في جريدة النهار، يقول فيه: "الجلوس في العلوم هو مجرد رؤية المتواضع أنه عدم؛ إذ ليس هناك من مكان حسيٍّ أو عقلي يجلس فيه. يقرر المتواضع عدمه بعدما قرَّر وجودية الله المحب." ويتابع في فقرة أخرى من المقال: "المعرفة الكبرى للذات ليست في أن تعرف فضائلك وحسناتك، ولكن أن تعرف أنك لاشيء."
هنالك حالة عظمى كانت تمتلك الحلاج بعد هذه الرحلة الثانية، تتعدى الزهد بالدنيا – حتى بحلالها! – إلى الرغبة في الفناء بالله، لأن "التوحيد الحق إنما هو توحيد الذات بالله. وكل ما هو دون ذلك إنْ هو إلا تعلُّق بالوهم الخادع". هذه الأمور تدع مجالاً ضيقًا للقول بأن الحلاج ظلَّ يحرِّض على الثورة لمكافحة الفساد. فعدا عن محاولة اتصاله بالعلويين، – ولعلها محاولة لإعادة صلته بالناس والحياة، – لا يورِد المؤلِّف أدلةً نثرية أو شعرية صريحة على دعوته إلى الثورة. أما تفسيره بأن الإصلاح الاجتماعي لديه يجب أن يبدأ بالإصلاح النفسي أولاً، ولا يمكن أن يتم إلا بعد إعداد الفرد جسديًّا وروحيًّا معًا، وأن عامة الناس، إنْ لم يستطيعوا استهلاك ناسوتيَّتهم كلِّها في لاهوتية الله، ففي إمكانهم استهلاك أنانيتهم، بما فيها من جور واستبداد وعبودية واستغلال وطغيان، فهو من صُلب التصوف والدين حتى، وليس دعوة مباشرة ضد أحد، وإنْ فسَّرها الناسُ أو المستبدون كذلك.
يرى المؤلِّف لقاءً بين مفهوم الحلاج للصَّلب وبين مفهوم المسيحية، من حيث المقصود به الفداء والتجدد والتألُّه؛ ويعتبر مفهوم التجدد بعد الصلب والفناء أقدم من المسيحية، من دون أن يتوسع في ذكر أمثلة. وقد شاع بين الناس إلى اليوم أنه عملية قصاص أو عقاب قديمة. ويقول إن الحلاج توخَّى تحقيق غايات ثلاث من صَلبه هي:
- استهلاك ناسوتيَّته في اللاهوتية استهلاكًا كليًّا، و
- فداء العالمين حبًّا بهم، وبالتالي هدايتهم، و
- "نَوْرَزَة" الناس (من كلمة "النيروز"، ومعناها السنة الجديدة أي التجدد)، ليحققوا الانبعاث في الحقِّ والحياة فيه.
ويتابع أن الحلاج
... ليس من العامة. فهو من هذا القبيل شبيه بالمسيح: لم يَخَفْ من الخصم ولا من القاضي ولا من الشرطي ولا من السجان والجلاد، بل أحب هؤلاء جميعًا وصالَحَهم وأخلَص لهم كما أحبَّ الناس وصالَحَهم وأخلَص لهم [...].
ومع ذلك، نرى من جانبنا أن هناك فوارق بين تجربة كلٍّ من المسيح والحلاج، بصرف النظر عن اللاهوت المسيحي، تجعل الحركتين مختلفتين تأثيرًا، وإن كان منطلقهما هو الحب: "أحبب الرب إلهك بكلِّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ قدرتك وكلِّ ذهنك"، و"أحبب قريبك [الآخر] كنفسك" (إنجيل متى 22: 37-39)، إلى درجة تمنِّي مشاركته التجربة. كلاهما لم يَخَفْ من السلطة الدينية أو الزمنية؛ لكن المسيح "كان يعلِّم كَمَن له سلطان" (إنجيل 7: 29)، إذ كان عارفًا بنهايته وهو يبشِّر بغير السائد في العقيدة اليهودية. إرادته في قبول الموت هي من إرادته في نقل التجربة، بصرف النظر عن النتيجة، ومن دون مراعاة أية حدود تجعله في منأى عن الخطر.
عُرِفَ عن المتصوفين الشطحُ، فقالوا أحيانًا ما يعرِّضهم للموت أو الخطر، لكنهم ظلوا – وفيهم الحلاج – حريصين على النطق بأصول الإيمان والقيام بالعبادات والتمسك بالأركان. ويرى المؤلِّف أن الحلاج كان قريبًا من عقيدة أهل الباطن عمليًّا وفكريًّا: فهم، و"إن قالوا بتأويل الدعائم الإسلامية والأخذ بالمعنى الباطن للشريعة، حرصوا على الممارسة الظاهرة لهذه الدعائم"؛ وذلك، في عرفهم، حرصٌ من المرء على سلامة عقيدته وسلامته وسلامة العامة، مما لا ينطبق على المسيح الذي جهد في تبسيط تجربته لأفهام الناس، ولم يكن مهتمًا بترك بعضها مستغلقًا. فالمسيح، وإن قال: "ما جئت لأنقض بل لأكمل"، وإن علَّم حينًا في المجامع قبل أن تتألَّب عليه السلطة الدينية، لم يتصرف كَمَن يحدُّ نفسه بحدود عقائدية معينة؛ ومن هنا الفداء والقول إنه أحدث القيامة أو التجديد بعد الفداء، لأنه تحرَّر أيضًا من الحدود والانتماء في أسلوب تبشيره، بصرف النظر عن المضمون الروحاني الذي تحمله أقوالُه.
يحاول مكارم في القسم الثاني من الكتاب تفسير كُنْه أقوال هذا الصوفي العظيم الذي ألهم الأدباء والفنانين، ويتطرَّق إلى معنى الحروف لديه على أنها "ناسوت لكلِّ معنى، وأصلٌ لكلِّ فكرة، ومبدأ لكلِّ خلق"، مذكِّرًا بأن الكلمات في البهاغافاتا بورانا الهندوسية تتحول إلى كائنات محسوسة. ويفسِّر مبدأ النقطة بأنه من إدراك الحلاج "سرَّ عالم الخلق لطافةً لا كثافة، وذلك عندما أدرك هذه النبضة الأمرية التي يسمِّيها بالنقطة الأصلية والتي هي أصل تكثُّف عالم الخلق". والنقطة في وسط الدائرة هي الحقيقة؛ ومن هنا قوله الذي لم يفهمه الناس: "اعلموا أن الهياكل قائمة بياهوه، والأجسام متحركة بياسينه. والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصلية." وهذا يفسِّره المؤلِّف بأن عالم الحسِّ
قائم بالحقِّ الذي لا يُدرَك ولا يُشار إليه إلا بـ"هو". حتى هذه الإشارة بـ"هو" هي طريق تؤدي بالعارف إلى إدراك ما هو مهيأ لمعرفته من الحقيقة، وهي النقطة الأصلية، وذلك من خلال الرسالة الإلهية التي هي طريق إلى "هو". هذه الطريق هي طريق سين؛ والمقصود بسين مَن خاطَبَه الله في سورة ياسين.
ويتوالى ما كابده الحلاج مرحلة إثر مرحلة وقاله في أشعاره، حتى بلوغه أعلى المقامات: مقام الرضا والتسليم، بعد مرور الإنسان في مراحل سبع هي الشرائع التي تهيِّئ لتقبُّل الحقيقة، أي شريعة آدم، وشريعة نوح، وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد، ودور القيامة – حتى يصبح المهتدي خلقًا آخر في التوحيد.
التصوُّف في ما وراء المعنى والخطِّ واللون
مي باسيل
يُشبِّه المؤلِّف صوفية الحلاج، التي يرى أن سُحُب الغموض تلفُّها "وتمنع كثيرين من رؤيتها على الحقيقة"، بتجربة المسيح؛ وإن كان الأقرب إلى الواقع أن الحلاج أحبَّها أن تكون كذلك، فتثمر الثمر نفسه.
بلغ الحلاج أرفع المراتب في عصر انتشر فيه التصوفُ وشيوخُه، فأضحى قمة من قمم التصوف. وإن كانت سيرتُه معروفةَ التفاصيل فإن انتماءه الفكري–السياسي وأقوالَه خضعت لتفسيرات اجتهد المهتمون في استخلاصها مما توافر لهم عنه، ويصعب، بالتالي، الجزم في أيٍّ منها نظرًا إلى تباين الحجج المتوافرة، مما يترك المجال مفتوحًا للتأويل: هل انتمى إلى القرامطة؟ أم إلى الدعوة الفاطمية؟ أم كان قريبًا منهما على التوالي لـ"روحه الثورية ودعوته إلى الإصلاح السياسي والاجتماعي"؟
يعتبر سامي مكارم أن الحلاج انتحى في مفهومه منحًى مختلفًا عن المنحى التقليدي للتصوف؛ إذ أصبح التصوف لديه "جهادًا في سبيل إحقاق الحقِّ، ولم يعد مسلكًا فرديًّا بين المتصوف والله فحسب". والأرجح أنه تنقَّل بين الحالين، على ما يمكن لنا أن نستنتج من سيرته. ناصَر في بداياته ثورةَ الزنج والحركاتِ المناهضةَ فسادَ السياسيين وجورَهم، قبل أن يرتحل إلى الحج للمرة الأولى، فإلى الأهواز وخراسان، ثم يعود بأهله إلى بغداد وقد غدا صاحب كرامات، فتُنسَب إليه الشعوذةُ، وينطلق مجددًا في سعيه المعرفي، بالغًا هذه المرة الهند وتركستان ثم كشمير، حتى الأطراف الغربية للصين، حيث تعرَّف في كلِّ محطة إلى مسالك الحكمة فيها، قبل أن يعود ثانية إلى بغداد وقد ازداد تعمقًا فيها. بعد تلك الرحلة الثانية التي جمعت الناس حوله، أو ألَّبتْهم عليه أكثر، يبدو الحلاج وقد أُخِذَ عن الحياة والناس، حتى إنه أحسَّ بعزلة نفسية عن العالم، إذ يقول:
فهـا أنا في حبس الحياة ممنَّع * عن الإنس فاقبضني إليك من الحبس
أي أنه عاد إلى حدود التصوف والزهد كما نعرفها. لذا صاح مرة: "يا أهل الإسلام أغيثوني! فليس يتركني ونفسي فآنس بها، وليس يأخذني من نفسي فأستريح." ولعله كان يشعر في احتجابه عنه بأنه "عدم" – والقول أستعيره من مقال للمطران جورج خضر عنوانه "التواضع"، نُشِرَ في جريدة النهار، يقول فيه: "الجلوس في العلوم هو مجرد رؤية المتواضع أنه عدم؛ إذ ليس هناك من مكان حسيٍّ أو عقلي يجلس فيه. يقرر المتواضع عدمه بعدما قرَّر وجودية الله المحب." ويتابع في فقرة أخرى من المقال: "المعرفة الكبرى للذات ليست في أن تعرف فضائلك وحسناتك، ولكن أن تعرف أنك لاشيء."
هنالك حالة عظمى كانت تمتلك الحلاج بعد هذه الرحلة الثانية، تتعدى الزهد بالدنيا – حتى بحلالها! – إلى الرغبة في الفناء بالله، لأن "التوحيد الحق إنما هو توحيد الذات بالله. وكل ما هو دون ذلك إنْ هو إلا تعلُّق بالوهم الخادع". هذه الأمور تدع مجالاً ضيقًا للقول بأن الحلاج ظلَّ يحرِّض على الثورة لمكافحة الفساد. فعدا عن محاولة اتصاله بالعلويين، – ولعلها محاولة لإعادة صلته بالناس والحياة، – لا يورِد المؤلِّف أدلةً نثرية أو شعرية صريحة على دعوته إلى الثورة. أما تفسيره بأن الإصلاح الاجتماعي لديه يجب أن يبدأ بالإصلاح النفسي أولاً، ولا يمكن أن يتم إلا بعد إعداد الفرد جسديًّا وروحيًّا معًا، وأن عامة الناس، إنْ لم يستطيعوا استهلاك ناسوتيَّتهم كلِّها في لاهوتية الله، ففي إمكانهم استهلاك أنانيتهم، بما فيها من جور واستبداد وعبودية واستغلال وطغيان، فهو من صُلب التصوف والدين حتى، وليس دعوة مباشرة ضد أحد، وإنْ فسَّرها الناسُ أو المستبدون كذلك.
يرى المؤلِّف لقاءً بين مفهوم الحلاج للصَّلب وبين مفهوم المسيحية، من حيث المقصود به الفداء والتجدد والتألُّه؛ ويعتبر مفهوم التجدد بعد الصلب والفناء أقدم من المسيحية، من دون أن يتوسع في ذكر أمثلة. وقد شاع بين الناس إلى اليوم أنه عملية قصاص أو عقاب قديمة. ويقول إن الحلاج توخَّى تحقيق غايات ثلاث من صَلبه هي:
- استهلاك ناسوتيَّته في اللاهوتية استهلاكًا كليًّا، و
- فداء العالمين حبًّا بهم، وبالتالي هدايتهم، و
- "نَوْرَزَة" الناس (من كلمة "النيروز"، ومعناها السنة الجديدة أي التجدد)، ليحققوا الانبعاث في الحقِّ والحياة فيه.
ويتابع أن الحلاج
... ليس من العامة. فهو من هذا القبيل شبيه بالمسيح: لم يَخَفْ من الخصم ولا من القاضي ولا من الشرطي ولا من السجان والجلاد، بل أحب هؤلاء جميعًا وصالَحَهم وأخلَص لهم كما أحبَّ الناس وصالَحَهم وأخلَص لهم [...].
ومع ذلك، نرى من جانبنا أن هناك فوارق بين تجربة كلٍّ من المسيح والحلاج، بصرف النظر عن اللاهوت المسيحي، تجعل الحركتين مختلفتين تأثيرًا، وإن كان منطلقهما هو الحب: "أحبب الرب إلهك بكلِّ قلبك وكلِّ نفسك وكلِّ قدرتك وكلِّ ذهنك"، و"أحبب قريبك [الآخر] كنفسك" (إنجيل متى 22: 37-39)، إلى درجة تمنِّي مشاركته التجربة. كلاهما لم يَخَفْ من السلطة الدينية أو الزمنية؛ لكن المسيح "كان يعلِّم كَمَن له سلطان" (إنجيل 7: 29)، إذ كان عارفًا بنهايته وهو يبشِّر بغير السائد في العقيدة اليهودية. إرادته في قبول الموت هي من إرادته في نقل التجربة، بصرف النظر عن النتيجة، ومن دون مراعاة أية حدود تجعله في منأى عن الخطر.
عُرِفَ عن المتصوفين الشطحُ، فقالوا أحيانًا ما يعرِّضهم للموت أو الخطر، لكنهم ظلوا – وفيهم الحلاج – حريصين على النطق بأصول الإيمان والقيام بالعبادات والتمسك بالأركان. ويرى المؤلِّف أن الحلاج كان قريبًا من عقيدة أهل الباطن عمليًّا وفكريًّا: فهم، و"إن قالوا بتأويل الدعائم الإسلامية والأخذ بالمعنى الباطن للشريعة، حرصوا على الممارسة الظاهرة لهذه الدعائم"؛ وذلك، في عرفهم، حرصٌ من المرء على سلامة عقيدته وسلامته وسلامة العامة، مما لا ينطبق على المسيح الذي جهد في تبسيط تجربته لأفهام الناس، ولم يكن مهتمًا بترك بعضها مستغلقًا. فالمسيح، وإن قال: "ما جئت لأنقض بل لأكمل"، وإن علَّم حينًا في المجامع قبل أن تتألَّب عليه السلطة الدينية، لم يتصرف كَمَن يحدُّ نفسه بحدود عقائدية معينة؛ ومن هنا الفداء والقول إنه أحدث القيامة أو التجديد بعد الفداء، لأنه تحرَّر أيضًا من الحدود والانتماء في أسلوب تبشيره، بصرف النظر عن المضمون الروحاني الذي تحمله أقوالُه.
يحاول مكارم في القسم الثاني من الكتاب تفسير كُنْه أقوال هذا الصوفي العظيم الذي ألهم الأدباء والفنانين، ويتطرَّق إلى معنى الحروف لديه على أنها "ناسوت لكلِّ معنى، وأصلٌ لكلِّ فكرة، ومبدأ لكلِّ خلق"، مذكِّرًا بأن الكلمات في البهاغافاتا بورانا الهندوسية تتحول إلى كائنات محسوسة. ويفسِّر مبدأ النقطة بأنه من إدراك الحلاج "سرَّ عالم الخلق لطافةً لا كثافة، وذلك عندما أدرك هذه النبضة الأمرية التي يسمِّيها بالنقطة الأصلية والتي هي أصل تكثُّف عالم الخلق". والنقطة في وسط الدائرة هي الحقيقة؛ ومن هنا قوله الذي لم يفهمه الناس: "اعلموا أن الهياكل قائمة بياهوه، والأجسام متحركة بياسينه. والهو والسين طريقان إلى معرفة النقطة الأصلية." وهذا يفسِّره المؤلِّف بأن عالم الحسِّ
قائم بالحقِّ الذي لا يُدرَك ولا يُشار إليه إلا بـ"هو". حتى هذه الإشارة بـ"هو" هي طريق تؤدي بالعارف إلى إدراك ما هو مهيأ لمعرفته من الحقيقة، وهي النقطة الأصلية، وذلك من خلال الرسالة الإلهية التي هي طريق إلى "هو". هذه الطريق هي طريق سين؛ والمقصود بسين مَن خاطَبَه الله في سورة ياسين.
ويتوالى ما كابده الحلاج مرحلة إثر مرحلة وقاله في أشعاره، حتى بلوغه أعلى المقامات: مقام الرضا والتسليم، بعد مرور الإنسان في مراحل سبع هي الشرائع التي تهيِّئ لتقبُّل الحقيقة، أي شريعة آدم، وشريعة نوح، وشريعة إبراهيم، وشريعة موسى، وشريعة عيسى، وشريعة محمد، ودور القيامة – حتى يصبح المهتدي خلقًا آخر في التوحيد.
الخميس يونيو 14, 2018 10:21 pm من طرف Jaber
» (العالم والمتعلم)
الخميس يونيو 14, 2018 10:17 pm من طرف Jaber
» (الستر على المؤمن)
الخميس يونيو 14, 2018 10:14 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:11 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:09 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:06 pm من طرف Jaber
» أدعية الأيام للامام المعز لدين الله عليه وآله الصلاة والسلام
الخميس يونيو 14, 2018 10:04 pm من طرف Jaber
» قبسات من أنوار الإمام المعز لدين الله عليه السلام
الخميس يونيو 14, 2018 9:33 pm من طرف Jaber
» أفيقوا ياأخوة المعنى ولا تكونوا نظراء في التراكيب
الإثنين مارس 26, 2018 8:03 pm من طرف أبابيل
» طلب معلومات عن حجج الله
الإثنين أكتوبر 23, 2017 10:42 pm من طرف أبابيل
» التلاعب بالترددات
الخميس أبريل 27, 2017 8:22 pm من طرف العتيق
» عرفوني على مذهبكم لعلي أكون منكم ومعكم
الإثنين مارس 20, 2017 2:48 pm من طرف zain.abdalkader